«النسبية» في علم الاجتماع

TT

يقول (آينشتاين): «إن كشف الحقيقة مرة واحدة لا يكفي. ان الحقيقة تشبه تمثال الرخام المنصوب في صحراء تضرب فيها عواصف الرمل، وهو مهدد بالاختفاء في كل لحظة، والايدي الماهرة التي تنفض عنه الرمال باستمرار هي التي تحافظ على لمعانه تحت ضوء الشمس» ونحن سنعيد اكتشاف حقيقة النسبية في علم الاجتماع.

تعتبر النسبية من أجمل ما انتجته فيزياء القرن العشرين. وأجمل ما في نظرية النسبية انها رأت الامور في نسبة بعضها الى بعض. وادخلت الخلل الى (مفاهيم) اساسية غير قابلة للزحزحة مثل المكان والزمان والمادة، كما قلبت رؤوسنا في (الرياضيات) بأن كل زيادة فوق سرعة الضوء لا تزيد السرعة سرعة. مثل لو قال واحد ان 300 + 3 = 300. وهذا يقرب الينا ان الاقدمين ليسوا بالضرورة أفضل منا بل العلم في حالة (كم) تراكمي ينمو بالحذف والاضافة. وما انجزه (البخاري) يمكن ان نفعل خيرا منه، وبشروط تقنية أفضل وبراحة أعظم، خلف جهاز كمبيوتر، وعلى ضوء الكهرباء وليس على الفتيل والسراج، وبدون رحلات الى اقصى الارض. والنسبية قوضت فيزياء (نيوتن) واستطاعت ان تفك معضلات كونية مثل حضيض عطارد، وهذا يقرب الينا ان خلاف المسلمين على رؤية الهلال اصبح بغير معنى. وان «عينا» مختلفا بين اقطار اسلامية متجاورة يعبرها الساتلايت في دقائق يشكل مهزلة. والنسبية ادخلتنا عصر الالكترونيات واستخراج اعتى (طاقة) من أدق الموجودات في نواة الذرة، ونقل وقود الشموس الى ظهر الارض بالتفجير النووي، ومعه ولد أعظم شيء في تاريخ الانسان: موت (مؤسسة الحرب) على الرغم من وجود بقاياها، كما في وجود مخلفات البريد مع وجود الانترنت، او من يعد على الاصابع واستخدام مصابيح الكيروسين في عصر النور. والنسبية قلبت تصوراتنا (للمطلق) فكل ما في الكون نسبي بما فيه الزمن، والزمن ليس واحدا في الكون، بل هو كائن مفكك الاوصال فالوقت على الارض ليس مثله في مجرة الاندروميدا. واذا كانت حقائق بهذا الحجم قابلة للمراجعة فإن قتل الناس بعضهم بعضا من أجل الرأي يصبح نكتة ضخمة بدون ان يضحك لها احد.

والنسبية انهت (ثنائية) المادة والطاقة فأصبحت الطاقة والمادة وجهين لحقيقة واحدة في معادلة رياضية أنيقة مكونة من اربعة رموز، وبذلك انهارت (نظرية الشيطان) انه خير من آدم، فليس التراب والنار في النهاية إلا تبادلا في المواقع بين المادة والطاقة، ولا يشكل هذا أفضلية كائن على كائن. وبذا نسفت النسبية العنصرية نسفا فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا.

والشيء الوحيد الذي خشعت عنده النسبية هو سرعة الضوء. وفي هذه النقطة قال القرآن: «الله نور السموات والارض».

إن الضوء يمثل أعظم جدلية في الوجود فمنه عرفنا انه مزيج من سبعة ألوان، وفي حوافه أشعة حامية غير مرئية، ومن الضوء ولد الليزر، وحتى اليوم يتجادل الفيزيائيون عن حقيقته هل هو فوتونات أو موجات او كلاهما او لا احد منهما، بل حقيقة أخرى لا نعرفها.

وأهم شيء فعلته النسبية انها كسرت المسلمات العقلية التي ارتاح على ظهرها العقل الانساني قرونا طويلة. وأدركنا ان المسلمات هي تصوراتنا لا أكثر. وإن الظن لا يغني من الحق شيئا.

ومعنى هذا الكلام ان النسبية لم تعد نظرية في الفيزياء، بل ألقت ظلالها العقلية على فلسفة جديدة لفهم الكون.

كان آينشتاين وهو طفل يراوده حلم باستمرار: هل يمكن ان يعتلي ظهر شعاع الشمس؟ ان اهم ما في نظرية النسبية هو المراهنة على سرعة الضوء. وقصة الوصول الى سرعة الضوء لم تكن سهلة، فديكارت اعتبر ان سرعة الضوء لا نهائية، في حين خرج غاليلو واتباعه ليقيسوا سرعة الضوء وفي أيديهم القناديل في الليل البهيم فأدركوا انه مستحيل وكانوا كمن يقيس الارض بالشبر. حتى استطاع (فيزو) بتقنية الاقراص المسننة ان يحددها قريبا من 300 الف كم للثانية.

ومن رحم السرعة ولدت النظرية النسبية التي اعتبرت ان الوصول الى سرعة الضوء يعني اربع استحالات: استهلاك لا نهائي للطاقة. وزيادة الوزن بأكثر من الكون جميعا. وانضغاط بعدين الى الصفر، فيصبح الانسان في بلاد أليس للعجائب مضغوطا بدون عمق وعرض. ورابعا توقف الزمن.

وأمكن التحقق من النظرية النسبية بقياس انحراف أشعة الشمس بخسوف عام 1918م، وزيادة كتلة الجزيئات دون الذرية في المسرعات النووية. ولكن توقف الزمن مع زيادة السرعة يجعلنا نشعر بالدوار، فالزمن ليست له وحدة ثابتة في الكون، بل هو مختلف التدفق من مكان لآخر مثل جدول الماء الذي يسرع في المنحدر ويتباطأ مع السهل، كما ان النسبية العامة ادخلت الخلل الى مفهوم الزمن من خلال (الكتلة) فمع ازدياد الكتلة الى اللانهاية يتوقف الزمن من جديد، وهكذا فالزمن على ظهر المشتري او الشمس ابطأ منه على الارض.

واذا كانت مسلمات من هذا القبيل واردة بحيث نخرج ببعد رابع بعد الطول والعرض والارتفاع ليصبح الزمن البعد الرابع المكاني. كذلك انقلبت المادة الى طاقة وبالعكس والزمان الى مكان. وهذا المفهوم يمكن (تعقله) ولكن لا يمكن (تصوره) مثل النملة التي ترى الارض سطحا لا نهاية له في الوقت الذي ندرك نحن اننا نعيش على ظهر كرة. واما الفيزياء الحديثة فقد اوصلت الابعاد الى احد عشر بعدا، اما (توينبي) فيرى مسألة الابعاد على نحو تاريخي تتدرج فيه الى البعد الخامس بظهور الحياة ثم السادس بانبثاق النفس الانسانية ثم السابع بظهور البعد الاجتماعي.

ان اخطاء عقلية ضخمة يمارسها العقل تحتاج الى تصحيح كما يذكر (محمد كامل حسين) في كتابه (وحدة المعرفة) عن (الغائية) و(الحقيقة) و(الثنائية) و(الزمن). مثل ان غاية الشيء تخلق وسائله فيقول انهم يخطئون مثل «من يرى بصمات الاصابع خلقت لتسهل على رجال الشرطة تتبع المجرمين، او من يقول ان العظم اللامي خلق ليدل على جريمة الخنق». او في مبدأ (السببية) لتقرير الحقيقة كما في سبب الهيضة للكوليرا مما دفع احد العلماء ان يتجرع قدحا من الجراثيم على ملأ من الناس فلم يصب ليؤكد نظرية (تضافر العوامل). او عندما نقسم العالم من حولنا الى ثنائية فنجعل احساساتنا مصدر الحقيقة ونصف الاشياء انها حارة وباردة. او تصف ألسنتنا الكذب هذا حلال وهذا حرام. وهو تقسيم متحكم فيه، فالحرارة هي ميزان متدرج ينزل الى 273 تحت الصفر ويصعد الى ذرى جهنمية كما في باطن الشمس التي تغلي فيها الحرارة عند عشرة ملايين درجة. في الوقت الذي يغلي دماغنا اذا قفزت الحرارة الى 40 درجة. كما ان الحموضة هي مقدار تركز أيونات الهيدروجين في الوسط، ويمكن نقل هذه الفكرة الى علم الاجتماع لفهم الخطأ والصواب والشر والخير. وعندما تقول الفلسفة انه يستحيل اجتماع النقيضين مثل الحرارة والبرودة فهي ليست بنقيضين بل تدرج في ميزان الحرارة وتكامل في الصعود والهبوط. والقرآن اعتبر ان حادثة الإفك لم تكن شرا «بل خير لكم» وهكذا فما هو شر في مرحلة للبعض قد يكون خيرا في مرحلة متقدمة لآخرين. وهذا يدخل النسبية في كل شيء. والانسان ليس شيطانا ولا ملاكا وقد يكون مع زميله سيئ الخلق ولكن لعائلته اكثر من ممتاز. وهذا قلب مذهل في المفاهيم الاجتماعية وفي قصة ولدي آدم. اعتبر القرآن ان القاتل هو الخاسر وان المقتول الذي لم يدافع عن نفسه هو الرابح وهي لب الفلسفة السقراطية. «فطوعت له نفسه قتل اخيه فقتله فأصبح من الخاسرين».

يروى عن راسل انه كان يقول انا غير مستعد ان اموت من اجل افكاري لانها قد تكون خاطئة.

[email protected]