السعودية ورياح التغيير

TT

انها لحظة تاريخية مميزة، بل وممتازة ان يتمكن ابناء جزيرة العرب من اعادة احياء بعض من صفحات تاريخهم المشرق في مجال الاخذ والعطاء والتعارف بين الشعوب والامم، وصناعة الحضارة، والانتقال السلس للأفكار والعلوم.

كان ذلك اول مرة قبل ما يزيد على الاربعة عشر قرنا بعقدين ونيف من الزمان تحت ظلال الوحي وظهور الرسالة الخالدة والخاتمة. في حين يحدث اليوم، بصورة جزئية من خلال جهد بشري، منقطع عن الوحي، لكن فيه من التواصل مع رسالة الوحي ما يعطيه ذلك التميز والامتياز بشكل لافت ومشهود.

أمة الدعوة، التي انطلقت آنذاك تبلغ رسالة انسانية جديدة، تحاول اليوم وهي تعيش في ظروف دولية معقدة ان تتقدم للعالم كأمة حوار واخذ وعطاء بامتياز.

انها المحاولة السعودية الاكثر جرأة في تاريخ الجزيرة العربية الحديث. واقصد بذلك مبادرة السعودية لاقامة ندوة، هي الاولى من نوعها في تاريخ العمل الفكري الرسمي للمملكة، في مجال التعاطي الحر والمفتوح مع الرأي الآخر، التي اقامتها مكتبة الملك عبد العزيز العامة في الرياض، تحت عنوان «الاسلام وحوار الحضارات».

تلك الندوة الدولية التي ضمت في ثناياها، واحدة من اجمل واجرأ ما سمعت من مناقشات وسجالات من النوع الذي لم يعتده بلد كالسعودية، او هكذا كان يتصور الكثيرون ممن لبوا الدعوة.

وحده الاستاذ فيصل بن عبد الرحمن بن معمر المشرف العام على المكتبة والمدير التنفيذي للندوة، كان مطمئنا الى نتائج جهده وواثقا بصورة مطلقة بأن اطلاق الحوار، بلا حدود، بين «المؤمنين» وغير «المؤمنين» بكل تلاوينهم واطيافهم حتى داخل السعودية، لا يحمل اية مخاطر، بل انفتاحا حضاريا عصريا على عالم اليوم وافكاره.

كان الامر بحاجة الى «جسارة» و«اريحية» متميزة فعلا، ان تجمع بين الايراني والامريكي من جهة وبين السني والشيعي السعودي من جهة اخرى، واليساري والقومي والاسلامي العربي من جهة ثالثة، و«اللاديني»، او العلماني، والسلفي من جهة رابعة، في اطار ندوة مفتوحة في قاعة واحدة وفي بلد محافظ مثل السعودية، ثم تطلق العنان للمناقشة وابداء الرأي في امور وافكار ومقولات قد نوقش البعض منهم «لاتهامات عديدة» في ظروف مشابهة وفي امكنة او ازمنة اخرى.

لكنها مرة اخرى، اللحظة التاريخية التي يبدو ان السعودية التقطتها بعناية بالغة في محاولة للجمع بين ما هو تاريخي وماضوي، وما هو «مشروعية» في صلب تكوينها، وبين ما هو مستقبلي و«قبولية» مطالبة بها من جانب جماهيرها ومن قبل الرأي العام العربي والاسلامي والمجتمع الدولي.

وفي هذا السياق وفي صلبه تماما، فقد رمت مبادرة الامير عبد الله حول الشرق الاوسط والقضية الفلسطينية بظلالها بقوة على اجواء وحوارات الندوة.

واذ اجمع المحاضرون او كادوا، على وجود قراءات متعددة للاسلام او للحضارة الاسلامية على الاقل، وان الطرق للوصول الى الحقيقة بعدد انفاس الخلائق، فاتحين الباب بقوة امام اجتهاد العلماء والمفكرين لمواكبة الجديد من المقولات والمعطيات العصرية، وكذلك فعلوا بالتأكيد والاعتراف للاسلام بأنه دين الحوار والتعددية، فإنهم في الوقت نفسه وقفوا حائرين متناقضين احيانا تجاه الحل الاسلم والانجع لقضية فلسطين، قضية العرب والمسلمين الاولى، اللهم باستثناء الموقف شبه الموحد تجاه اهمية و«جسارة» وجرأة المبادرة السعودية.

وكان الامير عبد الله، وهو صاحب المبادرة، قويا وشجاعا ومتميزا، حين خاطبنا في كلمته التي افتتحت بها الندوة قائلا: «انه لا يحمل اي تعصب خاص لها»، بقدر رغبته من خلالها في «اطفاء عود ثقاب الجاهل الذي يريد تكرار تجربة حرق روما من جديد».

اما الامير سلمان، الذي التقانا بدوره، على هامش الندوة، فقد ذهب الى ابعد من ذلك، عندما قال بالحرف الواحد: «السؤال الكبير هو اذا ما كانت اسرائيل ستقبل بهذه المبادرة؟! واذ آمل كذلك، إلا انني اشك في ذلك ايضا!».

ومن جملة ما قاله امير الرياض، باسم القيادة السعودية، كما نوه في حديثه الينا: «هو ان الحملة المركزة ضدنا اليوم انما تعود اسبابها الى ثلاثة: اولها التعرض لديننا ومشروعيتنا الدينية، وثانيها، غضبهم واستكثارهم علينا بحقنا رفض التطبيع قبل الانسحاب الكامل والشامل، خاصة بعد التجارب المنتكسة لآخرين من قبلنا، وثالثها رغبتهم الجامحة في تخريب علاقتنا بأمريكا واحتكارهم لهذه الصداقة لوحدهم، بل الجلوس محلنا».

لكن اطرف ما سمعته كان ذلك الجزء من الحوار المفتوح امام جمع من المثقفين السعوديين والعرب والايرانيين ودار بين ريتشارد مورفي وباتريك سيل، عندما قال الاخير لمورفي بعد ان اشتد وقع الحوار والنقد عليه واتهام بلاده بأنها المسؤولة والقادرة وحدها على وقف سفك الدماء في فلسطين من خلال التوقف عن تقديم الدعم المطلق لاسرائيل، قال سيل لمورفي: «ان بلادكم او دولتكم بالاحرى، انتهازية من الدرجة الاولى، ومستقبل المنطقة في رقبتها وحدها فعلا، كما يقول الاخوة العرب والايرانيون، وليس في بيروت، كما ذكرت في اشارة الى ما كان قد قاله مورفي قبل ذلك بقليل في اشارة الى القمة العربية المرتقبة، خاصة بعد ان بعتم العرب بمجرد انجاز مهمتكم في افغانستان بعد ان كان رئيسكم ووزير خارجيتكم قد وعداهم بدولة فلسطينية في حين تحاولون اليوم التملص من هذا الوعد ملقين باللوم على تردد العرب». فما كان من مورفي، الذي يبدو انه شعر بانسداد الابواب امامه، إلا ان انتفض: «انها مسؤوليتكم انتم البريطانيون، ألم تكونوا انتم الذين منحتم هذا الوطن للاسرائيليين، حتى وصلنا الى ما وصلنا اليه اليوم..؟»، وكأنه كان يريد ان يقول له انكم تبرعتم من كيس الخليفة وهو ما لم يكن ملككم اولا، وانكم انتم الذين ابتدعتم واسستم لمقولة «الخداع».

فما كان من الجمع إلا ان انفجر ضاحكا اولا، والتوقف طويلا عند هذه المحاورة المعبرة في تلك اللحظة.

وللانصاف لا بد ان نسجل ان مورفي شرح قبل وبعد ذلك ايضا وفي مناسبات عدة بأنه لا يشاطر ادارة بوش الرأي في ما تفعل، ومن باب اولى باتريك سيل الذي ليس فقط لا يشترك مع حكومته ولا مع الامريكيين في الرأي حول الملف الفلسطيني والعربي، بل انه من المتعاطفين بجد مع المطالب الفلسطينية والقضايا العربية عامة.