المغرب وثقافات المتوسط

TT

كسبت الدبلوماسية العربية في محمد بن عيسى وزير خارجية المغرب مثقفا يملك القدرة والرؤية لإدخال بعض اللمسات الضرورية لتثقيف سياسات متخشبة أوشكت ان تفقد الروح من الاحباط والتكرار، والمراوحة العشوائية في الزمان والمكان.

وكنا نظن ان الثقافة فقدته في رواحه وغدوه بين الدوحة وواشنطن والقاهرة وتايوان، وتجدد الالتفاف حول الحل الصحراوي، وما الى ذلك من مشاغل ترهق قطار الشرق السريع، لكنه خيب الظنون، واثبت ان الثقافة ستظل حبه الاول، ونقل فؤادك حيث شئت من الهوى، فما الحب إلا للرحابة والمدى، والأفق الذي يصنع المستقبل ويقود بهدوء عمليات تغيير المجتمعات والعقول.

وفي جعبة محمد بن عيسى الثقافية التي لا تنضب، مشروعات محددة لأصيلة التي حولها من قرية مجهولة على المحيط الى معلم ثقافي عالمي بارز، وافكار عديدة للثقافة العربية ببعديها الأفريقي والمتوسطي، فهو يخطط هذا العام بالاضافة الى الندوات الفكرية، لندوة ادبية عن الرواية المتوسطية، وفي هذا التفكير له مع كثرة المبادرات حق التجريب، فهو مؤسس اول مهرجان عربي يرفع شعار الثقافة في خدمة البيئة، وبيئة المتوسط تشهد بثقافاتها المتنوعة عمليات مخاض صعبة لاصلاح ما افسدته السياسات على مدار قرون من الاستعمار والحروب وعدم الثقة.

وحين يأتي حديث ثقافات المتوسط لا احد يستطيع ان يزاود على المغرب في هذا المجال، فأهله أول من ابتكر تعبير «العدوتين» للدلالة على العبور من الضفة الجنوبية للمتوسط الى ضفته الشمالية. ومنذ ان فعلها طارق بن زياد منطلقا من طنجة التي لا تبعد اكثر من اربعين كيلومترا عن أصيلة، صار المغرب مفتاح الاندلس، بوابة اوروبا الجنوبية وذراعها الممتد مع صقلية الايطالية ومرسيليا الاوروبية نحو العالم العربي.

وفي المغرب ايضا يلتقي المتوسط بالاطلسي عند منطقة رأس سبارطل التي تتوسط ما بين طنجة وأصيلة، وبذا تنضم الجغرافيا الى التاريخ لتعطي لمبادرة محمد بن عيسى حول الثقافة المتوسطية ثقلها، ومصداقيتها، وواقعيتها، فالكل يعرف ان قطارات التعاون بين العرب واوروبا تمر اولا بمحطات الثقافة التي تعدد ولا تبدد، وتجمع ولا تفرق، وتبني ما تهدمه السياسة.

والورقة الرابحة في امثال هذه المبادرات هي ثراء ثقافات المتوسط وتنوع فنونه، فمن مولوية سورية ودراويشها الى المقامات العثمانية وألحان البوسفور وصولا الى تراث التروبادور جنوب فرنسا وايطاليا والى الفلامنكو الاسباني والموشحات الاندلسية دون نسيان الاسكندرية واثينا وبيروت وغيرها من المنارات الثقافية المتوسطية.

وإذا كانت السياسة ستفسد كعادتها المبادرات الثقافية والفكرية، فإن نقطة الحرج في المبادرة العيسوية هي المشاركة الجزائرية، وهذه مشكلة لا اعرف كيف سيحلها محمد بن عيسى، فالجزائر مع ليبيا صاحبتا أطول شاطئ على المتوسط، وغياب احداهما أو كلتيهما مشكلة سوف يلاحظها الجميع، ولا بد من الانتصار على هذه العقبة حتى تتطابق النظرية مع السلوك وتصبح الثقافة والفنون من أدوات إصلاح البين لا من عوامل الضياع بين المنزلتين والبينين، والدورين.

لقد قال امبرتو ايكو أحد ألمع أبناء الثقافة المتوسطية المعاصرين: «ان سر المعرفة يكمن في انه لا يمكن خلطها لا بالسلطة، ولا بالمال، فهي فقط مجرد قدرة على فهم أفضل للحياة». وهناك من يقول ان محمد بن عيسى يخلط الثقافة بالسلطة احيانا وبالمال احيانا وينجح في الحالتين، فهل هناك تناقض في الرؤية والموقف من الثقافة والمعرفة بين أبناء الضفة الجنوبية والضفة الشمالية للمتوسط....؟

الجواب مؤجل الى ان نرى ما ستقدمه أصيلة للثقافة المتوسطية في موسمها المقبل، فالأحلام عريضة دائما، والخطط جميعها تبدو أنيقة على الورق، والعبرة في القدرة على التنفيذ، والاستقطاب والإتيان بجديد في ساحة تمتلئ بالمبادرات المتشابهة في ميدان ثقافة عريقة كالثقافة المتوسطية التي نهضت على اكتاف الاغريق والعرب والرومان، وقبلهم الفينيقيون وعشرات الشعوب التي سادت ثم بادت واندثرت وظلت فنونها وحضاراتها شاهدة عليها في عالم يختلف على كل شيء ولا يكاد يتفق إلا على أهمية الثقافة والفن ودورهما في السمو بالانسان، وتشذيب غرائزه العدوانية.