ممنوع النشر باسم حرية الصحافة!

TT

يبدو ان الأميركيين اكتشفوا دهاليز العمل السياسي العربي الآن اكثر من أي وقت مضى بدليل انهم اصبحوا يمارسون ما تمارسه حكومات المنطقة. من بين هذه الممارسات ملاحقة ما ينشر في الصحافة العربية والمطالبة بالحد منه او معاقبته عند منعه.

فالعادة هنا ان «النشر» هبة حكومية تعطيها وتمنعها وتساوم عليها مع الحكومات الشقيقة، وهذا ما دفع كل حكومة وربع حكومة الى شراء صحف ومجلات ومحطات تلفزيون بل وأقمار صناعية او استيراد الكتاب والمذيعين. اذا كان هذا هو حال «الحوار الحر» في العالم العربي فلماذا نستغرب اذا قرر الأميركيون ان يخوضوا في مستنقع الاعلام من خلال المطالبة بمنع برامج تلفزيون وايقاف مقالات ومعاقبة الصحفيين؟

بالتأكيد وضع الاعلام العربي غير سوي قبل دخول العم سام على الخط، فقد سبقه اعمام كثيرون مثل العم صدام، ودخلت الساحة ايضا افقر الحكومات العربية واكتشفت بعض دكاكين الصحافة انها اكثر سخاء من اغنى حكومات المنطقة. فلم اصدق ان حكومات تستجدي المساعدات بلغ بها الظن بأهمية الاعلام ما يفوق قناعتها بأهمية الخبز فصارت تغدق بكرم لا يليق بأي جهة كانت غنية أم فقيرة.

هذا الوضع غير الصحي للاعلام استدل عليه الأميركيون، وهم اصحاب مصالح كبيرة في المنطقة وطرف شريك في مشاريعه السياسية. وبسبب التفاتتهم الجديدة اصبحوا يمارسون الشيء نفسه فيتصلون بالحكومات لمنع مقال او ابعاد صحفي او نهر رسام كاريكاتير. انه امر غير موزون على الاطلاق ان تطالب الحكومة الأميركية بمنع مقال في وقت تصدر وزارتها الخارجية بيانا سياسيا سنويا ينتقد حكومات المنطقة على قمع الحريات الصحفية. سألت لماذا لا يحق للحكومات العربية مطالبة واشنطن بمعاقبة صحفها على نقدها لفئات عربية او دينية؟ اجاب احدهم، لا.. الامر مختلف تماما. حكوماتكم مسؤولة بصورة مباشرة او غير مباشرة عن ما ينشر، فلها سلطة على الاعلام اما الحكومة الأميركية فلا تملك أية سلطة على صحافتها. وبالتالي فهو يطالب الجانب العربي بأن يمارس مسؤولياته. وهذا التصور صحيح حيث لا تمانع معظم الحكومات العربية ان ترضي حكومة صغيرة اعلاميا وبالتالي ستكون اسعد في ارضاء الحكومات الأكبر. وهناك مبرر آخر لم يقله احد لكنني اتبرع به وهو ان ما يدفع الأميركيين الى التدخل هو احتكار الرافضين لكل ما يذاع وينشر وهذا يدفع آخرين مثل الأميركيين للشكوى من عدم وجود الرأي الآخر. ففي غياب أي دفاع عن مواقفهم ومنع عرض أي رأي يحابيهم فهم مضطرون لمسايرة الاسلوب العربي بالتدخل.

لكن من الخطأ ان تعتقد الحكومة الأميركية او أي جهة كانت ان اسلوب الاحتجاج على الاعلام عبر الحكومات يؤدي في النهاية الى تصحيح صورتها في الاعلام او تخفيف الضرر. فنتائجه عكسية عادة حيث لن يخفف المنع من الغلواء وستأتي المناسبات اللاحقة للتشفي والانتقام الاعلامي منها.

انه اسلوب العاجزين في حين ان من له رسالة اعلامية ويملك موقفا عليه ان يقنع الآخرين به، وتحديدا عليه ان يقنع العاملين في الاعلام بالنقاش والمحاججة والتثقيف لا بالمنع والقمع بالنيابة.