بانتظار اقتناع واشنطن بحل سياسي في فلسطين

TT

صحيح ان واحدنا غائب جسدياً عن القمة العربية المقررة في بيروت خلال الاسبوع المقبل، لكن ما يحيط بها يمسنا بصورة او بأخرى. ومع ان الجو السياسي العام المحيط بالقمة من اسوأ الاجواء، يرى بعض المحللين ان عقدها خير من البدائل الاخرى المفضية كلها الى الانهيار الكبير.

هذا جائز... فكما يقال «في الحركة بركة» وأي خطوة في اي اتجاه يمكن ان تثير ردة فعل.. مع ان «الحركة» في عالمنا العربي اليوم نسبية، و«البركة» شبه غائبة. ولنحاول بصراحة وتجرّد تشريح الحالة السياسية العربية. بداية، علينا الإقرار بوجود حالة من التشتت الكامل التي لن تنجح الدبلوماسية العربية في سترها مهما اجتهدت. خاصة انه على الرغم من العوز الى الشرعية السياسية في معظم كيانات العالم العربي، لدى كل دولة عربية شعور مطلق بالسيادة الكاذبة التي تبرر الرهانات المنفردة. النظام السياسي العربي، بصفة عامة كما يعرف القاصي والداني، خال من اي شكل من اشكال الشورى والتفويض، وبالتالي المحاسبة المسؤولة. ومع هذا هناك استخفاف استثنائي بالقاعدة الشعبية، التي بالنظر الى كونها فقدت منذ عهد بعيد آلية التفاعل مع من هم «فوق»، نجدها قد طوّرت لنفسها اسلوباً سلبياً في التعايش مع سلطات لا تمثلها. وكان من نتاج هذا التعايش اليائس انخراط الجيل الجديد ـ الذي يشكل الغالبية العظمى من تعداد سكان العالم العربي ـ إما في حركات راديكالية رافضة، او في توق متلهب الى الهجرة، او الى تقبل العدمية والاستكانة والشلل. القمة العربية التي تنعقد تحت شعارات ضخمة وتعد بحسم استحقاقات تاريخية، تأتي في الحقيقة ردة فعل على احداث اقليمية وظروف اقليمية ودولية دُفعت الحكومات معها دفعاً الى عقدها. والمعنى انها لم تأت إطلاقاً نتيجة ضغط داخلي فرض نفسه فرضاً على هذه الحكومات، فاضطرت للتجاوب معه والتعبير بصدق عن مكنوناته ورغباته ومخاوفه وافكاره. أساساً الحوار الداخلي على مستوى الكيانات محظور ومغيّب، فكيف يمكن ان يقفز الحوار فوق الحدود الصغيرة لكي يتصدى للتحديات القومية والجماعية؟

ثم ان اللاعبين الدوليين الكبار الذين يريدون من هذه القمة ان تصل الى حالة من الحسم، لا يقيمون ـ حتى هذه اللحظة ـ اي وزن للمصداقية التمثيلية والشرعية التفويضية لقيادات العالم العربي. بل على العكس تماماً، يشكّل إصرار هؤلاء اللاعبين على مقولة «إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط» إدانة للقيادات العربية، مع ان هذه الادانة ـ ايضاً حتى هذه اللحظة ـ إدانة غير مصحوبة بعقوبات.

المسألة بسيطة... مع انها تبدو لأول وهلة في غاية التعقيد.

لقد استفادت معظم الحكومات العربية لفترة من ضعفها، فطال بقاؤها على حساب رغبات شعوبها. بل كان ضرورياً، وفق السيناريو الاقليمي المعد للشرق الاوسط، ان تكون ضعيفة وتظل ضعيفة ...ولكن فقط امام التهديد الخارجي لا الداخلي. فإي تهديد داخلي ممنوع منعاً باتاً والتصدي له مطلوب بكل الوسائل. وأزمات المنطقة، كما نعرف، كثيرة... ولا يصح ابداً ان تهمّش، او ان تساق سوقاً الى دائرة ظل أزمة اخرى ولو كانت بحجم القضية الفلسطينية. ففي لبنان ذاته أزمة داخلية مزمنة، والشيء نفسه ينطبق على السودان والجزائر. وثمة أزمات حدودية حادة بعضها ناشط وبعضها الآخر إما نائم او منوّم، اهمّها القضية الكردية في العراق والحالة السورية ـ التركية وقضية جنوب السودان و.. و.. الخ. غير ان القضية الفلسطينية ظلت قضية ذات ابعاد خاصة.

ظلت محكاً لشرعية النظام العربي وما زالت، مهما قيل فيها، ومهما كانت نظرة المواطن العربي الى فلسطين شعباً وارضاً وقيادات.

* * * القضية الفلسطينية منذ 1936 وليس فقط منذ 1948 هي نقطة الالتقاء والفضح.. هي العقدة التي تكشف عن مواطن القوة والضعف، الصمود والتنازل، السير الى الأمام او النكوص الى الخلف. وما يصر بعض العرب وكثيرون في المجتمع الدولي على تجاهله ...هو بالضبط هذه الحقيقة الجوهرية المحوَرية في قلب النظام السياسي العربي.

طبعاً، القضية الفلسطينية «ازمة سياسية» اولاً واخيراً. ولكن مع هذا قلّما برزت مقاربة عربية جدية لمضمونها السياسي، هذا من حيث تصوّر الحلول الممكنة والمطلوبة، بخلاف ردّات الفعل المتلاحقة التي بلوَرتها المواقف الفردية او الجماعية عبر القمم العربية المعقودة منذ مطلع الستينات... مع ان هذه القضية هي محكّ مصداقية النظام السياسي العربي.

ايضاً، نادراً ما حظيت هذه القضية رغم التنظير والمماحكة والنداءات والمؤتمرات والقرارات الملزمة وغير الملزمة، بأي مقاربة دولية تستحق الذكر. ولئن كان الدور الاميركي منذ 1956 قد حرص على إبعاد الآخرين عن مسرح «العلاقة الخاصة» بين واشنطن وتل ابيب، فالملاحظ ان المجتمع الدولي بالكاد حاول «الدخول على الخط» جدياً، ولا سيما في اعقاب سقوط «الفيتو» السوفياتي نتيجة «انهيار» الاتحاد السوفياتي «الفعلي» عام 1989... أي حتى قبل انعقاد مؤتمر مدريد.

فالولايات المتحدة اختارت عمداً ألا تدخل في تفاصيل هذه القضية تاركة اياها في عهدة الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة. واستمر الحال على هذا النحو حتى حرب تحرير الكويت، عندما طلبت الادارة الاميركية ـ كما هو معروف ـ من إسرائيل الإحجام عن لعب اي دور، وترك حتى مسألة «الدفاع عن النفس» لواشنطن، بغية المحافظة على تماسك التحالف الدولي ضد العراق.

عند هذا المفصل رُسمت معالم علاقة جديدة، ليس بالضرورة بين واشنطن وتل ابيب، بل بين تل ابيب والأزمات الأخرى في منطقة الشرق الأوسط. واليوم ثمة شريط احداث يشبه الى حد بعيد شريط احداث حرب تحرير الكويت. ومجدداً تجد اسرائيل نفسها في قلب مستنقع «أزمات» النظام السياسي العربي، التي اسهمت عبر سنوات طويلة في تغذية العديد منها.

ذلك ان المخطط الاميركي المسوّق في سياق الحرب على «الإرهاب» بحاجة الى تذليل عقبة إسرائيل المزعجة. وإسرائيل ذاتها بحاجة الى خيار آخر لنهج آرييل شارون العقيم. والنظام السياسي العربي لن يقوى على دفع فاتورة حرب تشن على بعضه من دون «بقشيش» مقابل على مسرح العمليات الاسرائيلي ـ الفلسطيني.

لهذا كانت الموافقة الاميركية الرسمية في الامم المتحدة ـ ما غيرها ـ على «دولة فلسطينية»، وإعادة الجنرال انتوني زيني الى الاراضي المحتلة لإيجاد «تسوية امنية» تمهد لـ«تسوية امنية» سابقة تتمثل بخطة جورج تينيت مدير الـ(سي آي ايه)، على الطريق للمباشرة بتحريك خطة جورج ميتشل...

واشنطن في الحقيقة غير معنية ولا عابئة بحل سياسي للصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني، وهي لا ولن تقترح حلاً سياسياً لأنها ما زالت فعلياً ملتزمة بالمنظور الإسرائيلي الاقليمي. وكل ما في الأمر انها تريد ألا يكون العناد الاسرائيلي عقبة في سبيل مصالحها الآخرى، وتهديداً لتكتيكاتها وصداقاتها التكتيكية.

وهكذا على المشاركين في قمة بيروت ان يحسبوا الأمور جيداً بلا اوهام إذا كانت ايديهم طليقة فعلاً... والخوف كل الخوف ألا تكون.