دوامة الفساد والاستبداد

TT

في العالم الثالث عموما، يمكن القول ان تضافر الفساد والاستبداد، هو الخلفية التي تكمن وراء معظم مشاكله. فان يكون هناك فساد من دون استبداد، مسألة يمكن معالجتها، في ظل سيادة القانون. بل ان الفساد لا ينمو في مجتمع او دولة او جماعة ينتفي فيها الاستبداد. فيغاب الاستبداد يعني سيادة القانون، وسيادة القانون تعني المساواة القانونية والسياسية بين مكونات المجتمع، أفرادا كانوا او جماعات، في اطار المواطنة المتساوية. والفساد لا يمكن ان يعيش في النور، وهو القانون الذي، حين يكون فعلا لا قولا، يكون مثل نور شمس صباح لا تحتمله الخفافيش. وحين الحديث عن الفساد (اداريا كان او سياسيا او ماليا)، فان المقصود هو عندما يكون هذا الفساد متفشيا لدرجة تتجاوز عتبة الفساد الممكن احتماله، والذي يوجد في أي بلد وكل بلد. فليس هناك بلد نقي تماما من الفساد، كما انه ليس هناك بلد فاسد بالكامل، ولكن درجة الفساد هي التي تحدد مدى استقرار النظام السياسي من عدمه، وهي درجة تختلف من بلد الى آخر، وفقا لعوامل ومتغيرات متعددة.

وحين يكون استبداد ولا فساد، وفق اسطورة «المستبد العادل» مثلا، فلا بد ان ينمو الفساد في النهاية، مهما كان المستبد عادلا وذا اهداف خيرة. فمن الممكن ان يكون هناك مستبد عادل في جماعة بسيطة: عائلة ما، او عشيرة ما، او حتى في قبيلة او طائفة ما، ولكن لا يمكن ان يكون هناك مستبد وعادل في ذات الوقت في مجتمعات مركبة تموج بالبشر، وتتعقد فيها العلاقات، وتتراتب الطبقات والفئات، وتتفرع الاهداف، كما هو حال المجتمعات المعاصرة، التي تحتاج الى ما يتجاوز القدرة الفردية البحتة لادارتها. فالفرد يبقى فردا، مهما بلغ من درجات الكمال، والكمال لله وحده في خاتمة المطاف. وبالتالي فليس بمقدور فرد ان يكون مسؤولا عن مجتمع معقد بالملايين، من دون ان يكون هناك اطار قانوني ومؤسسي تتحرك ضمنه مكونات المجتمع، الا اذا كان الها فوق مستوى البشر، ونحن نعلم انه لا اله الا الله.

مشكلة الاستبداد وانتفاء القانون، وحرية التعبير والمواطنة المتساوية انها تشكل نوعا من «الفلتر»، بين الحاكم وبين متغيرات الوضع في بلاده. مهمة ذلك «الفلتر» الا ينقل الا كل ما هو ايجابي الى الحاكم وعدم السماح بمرور أي سلبيات، وبالتالي نشوء فجوة وجفوة بين السلطة، ممثلة بالحاكم ومن زينوا له الزعامة، وبين المجتمع. ومع مرور الوقت، يتصور الحاكم ان أي نقد، او افكار سلبية حول الوضع، لا تعبر عن الحقيقة، بل هي نوع من الحقد الدفين في صدور موتورين: هكذا تُنقل له الصورة. ثم فجأة يحدث الانهيار، وتلك القشة التي تقصم ظهر البعير، ويندهش الحاكم محقا، وهو الذي كان يتصور انه معبود الشعب، ويبحث عن اصحاب «الفلتر» فلا يجد لهم اثرا.

والسؤال المثار هنا هو لماذا تتكرر الاحداث لاحقا رغم وضوح الدرس والمعنى؟ يبدو ان الجواب يكمن في ثلاثة امور: فما زال الانسان طفلا، وما زالت السلطة المطلقة مُفسدة، وما زال الطمع هو السيد. فالانسان لا يزال طفلا من حيث انه لا يعترف بالتجربة، وخاصة في المجال السياسي. فالطفل يتناول الجمرة فتحرقه، ولكن طفلا آخر بجانبه لا يأبه بصراخ زميله، فيتناول ربما ذات الجمرة وتحترق اصابعه، ويصرخ بدوره، وهكذا. لقد كان مونتيسكيو يقول ان «السلطة مفسدة»، ولا يقيد السلطة الا سلطة، كما ان الحديدلا يفله الا الحديد، كما قالت العرب. فالنوايا الفردية والطهارة والنقاء، لا يمكن ان تقف امام «دوار» السلطة المخيف واللذيذ، ما لم يكن هناك ما يمكن ان يحد منها ويقيدها، وهو بالضرورة سلطة مقابلة. ولذلك كان الشيخ محمد عبده يتعوذ من السياسة، وكل ما يتفرع من فعل «ساس». وقد قال الرسوم الكريم، صلى الله عليه وسلم، ما معناه: «لو كان لأحدهم مثل جبل أحد ذهبا، لتمنى غيره.. لا يملأ فم ابن آدم الا التراب». كثيرون، ومن خلال السلطة السياسية خاصة، لا يشبعون ولا يرتون، وذلك مثل شارب ماء البحر، كلما عب منه جرعات، زاد عطشه، مع ان الحياة بسيطة ولا تحتاج الى «مليارات» كي تستمر وتكون جميلة. ولكن تعاضد الطمع مع لذة السلطة والوعي القاصر، يجعل منا كائنات غير انسانية، ويحكم الانسان على نفسه بالبقاء في الجحيم، وهو الذي طُرد من الجنة في بداية الخلق والتكوين، ولكن من دون ابليس مُجسد هذه المرة.. فابليس في النهاية يكمن في النفوس قبل ان يكون لعين الرب في غابر الازمان.

[email protected]