من أجل باندونغ جديدة

TT

قبل قرابة أربعين سنة، أجتمعت مجموعة من زعماء عدد من بلدان العالم الثالث، في مدينة باندونغ لتخرج بمشروع استراتيجي واسع، عرف في الادبيات السياسية بمنظومة عدم الانحياز، التي جعلت على رأس أهدافها صياغة موقع جيوسياسي للبلدان الآفروآسيوية المستقلة، حديثا، في الخارطة القطبية القائمة أوانها.

ومهما كان التقويم النهائي لهذه الحركة التي تنتمي الى منطق الصراع القطبي الدائر، آنذاك حتى ولو كانت نزوعا للخروج منه، فإن ديناميكية باندونغ حققت دون شك جزءا من اهدافها المحورية، التي من ابرزها:

ـ استكمال دينامية الاستقلال بدعم نضال حركات التحرر الوطني، والعمل على تصفية الظاهرة الاستعمارية.

ـ تصحيح موازين العلاقات الدولية ورفض آلية الاستقطاب وتكريس حضور العالم الثالث في النظم والمؤسسات الدولية وخصوصا هيئة الأمم المتحدة.

ـ تنسيق الجهود المشتركة من أجل تحديث المجتمعات الجنوبية، ودفعها على طريق التنمية المستقلة بفك الارتباط مع القوى المهيمنة المستغلة.

ولئن كان المشروع أخفق في جوانبه التنموية ومطامحه التحديثية والاندماجية، إلا انه نجح، دون شك، في أهدافه السياسية والاستراتيجية، فكان قوة دافعة لحركات الاستقلال والتحرر، واطارا فاعلا لفرض صوت الجنوب واسماعه في المنتديات العالمية. ولئن كانت بلدان كتلة عدم الانحياز حاولت، في العقد الأخير، الذي تلا نهاية الحرب الباردة، الحفاظ على شكلها المؤسسي ومركزها الاستراتيجي، إلا انها عجزت بوضوح عن تجديد رسالتها واستعادة زخمها الأصلي.

وفي حين دفع بعض هذه البلدان ثمن التحول غاليا، فانتهى به الحال الى التفكك والحرب الاهلية، كما هو شأن يوغسلافيا، والى حد اقل اندونيسيا (وهما رائدتا المجموعة)، فضلا عن بلدان افريقية وآسيوية عدة، فإن البعض الآخر انساق وراء فكرة «المجموعة الدولية المتحدة» أو «النظام الدولي الجديد» قبل ان يكتشف زيفها وعقمها، في حين تمسكت بعض البلدان الخارجة على «الشرعية» الجديدة بغنائية الرفض ومقاومة «الاستعمار الجديد» و«الامبريالية» ومثالها كوبا، وظهرت مبادرات محتشمة لتفعيل مشكلة عدم الانحياز من منطلقات جديدة لم تحقق بعد نتائج عينية تذكر.

الواقع ان كتلة عدم الانحياز لم تستطع بعد، استعادة زمام المبادرة، والخروج من حالة الضياع التي تلت انحسار التركيبة الدولية السابقة، ووجدت نفسها منساقة، قبولا أو اضطرارا، الى الاندماج، ولو من مواقع خلفية وهامشية، في ديناميكية العولمة من منظور القوى المتحكمة في الاقتصاد العالمي (مجموعة السبع الصناعية).

وفي الوقت الذي يتزايد فيه نشاط واحتجاج حركية المجتمع المدني المناهضة لعولمة النهج الرأسمالي الامريكي بما تفضي اليه من استغلال للعالم الجنوبي المنكوب في ظل موازين مختلة وجائرة، تحتاج كتلة عدم الانحياز الى تجديد رسالتها وتفعيل آليات اشتغالها في مواجهة اتجاه القولبة الآحادية للمنظومة الدولية والذي اصبح متجسدا في ركائز ثلاث اطلق عليها انجاسورامونيه «محور الشر» (مستعيرا عبارة الرئيس الاميركي بوش)، وهذه الركائز هي:

ـ ضبط العلاقات الاقتصادية الدولية والتحكم في السوق العالمية من خلال المؤسسات والصناديق التي تهيمن عليها الولايات المتحدة الامريكية، وهي صندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. وتبث هذه الهيئات خطابا تنمويا قوامه فرض منطق السوق وأولوية القطاع الخاص واشاعة ثقافة الاستهلاك والنفعية. ولا شك ان المتضرر من هذا الاتجاه هو دول الجنوب ذات المواقع الهشة في المنظومة الاقتصادية الدولية.

ـ تمرير آيديولوجيا «العولمة السعيدة» من خلال ماكينة اعلامية وفكرية رهيبة تقرن ظاهرة توحد السوق الدولية ونمو تقنيات الاتصال والتواصل والثورة التقنية الجديدة بمضمون آيديولوجي ضيق هو المضمون الرأسمالي الليبرالي بنسخته الامريكية، وتقدمه المسلك الأوحد للنمو والتحديث. وقد انشأت الادارة الامريكية لهذا الغرض، بعد احداث 11 سبتمبر، «مكتباً للتأثير الاستراتيجي» عهد اليه بتوجيه الرأي العام الدولي، والتحكم فيه بغية تمرير الرؤية والمصالح الامريكية.

اقامة نظام أمني دولي رادع وفعال لحماية الامبراطورية الجديدة واحتواء خصومها، من منطلق القانون القبلي القديم (قسمة العالم بين من معنا ومن ضدنا)، وعدم الاحجام عن استخدام القوة العسكرية لارهاب الخارجين عن «الشرعية».

ان رسالة كتلة عدم الانحياز وفق هذه التحديات، تتمثل في مهام ثلاث أساسية، نراها الرهان الاستراتيجي الابرز للمجموعة الآفروآسيوية في المنظور القريب:

أولاها: العمل على تصحيح موازين العلاقات الاقتصادية الدولية، لا من منطلق الشعارات الاحتجاجية اليسارية السابقة (فك الارتباط والتنمية المتمحورة حول الذات)، وانما بتحويل المؤسسات الاقتصادية والنقدية الدولية الى اطر تشاورية وتشاركية فعلية لادارة سوق عالمية غدت موحدة ولا سبيل للخروج عليها.

ثانيها: رفع شعار التعددية الثقافية في مواجهة القولبة الآيديولوجية الأحادية، أي الاسهام في الحوار الواسع الثري حول المضامين الحضارية والفكرية لديناميكية العولمة، التي لا تفرض بنفسها مخزونا حضاريا أو آيديولوجيا، على عكس الصورة السائدة، دون الانغلاق في التعددية الاطلاقية العاجزة عن التواصل مع الآخر، إذ المقصود هو التوصل لقيم كونية مشتركة بديلة من الكونية المفروضة حاليا.

ثالثها: دفع الدينامية التكتلية والاندماجية لبلدان الجنوب، وتشجيع الاقطاب الاقليمية الناشئة، لتدعيم الموقع التفاوضي لمجموعة عدم الانحياز في النظام الدولي ومؤسساته السياسية والتنموية.