السنوات الأخيرة للشيخ الوالد (5)

TT

ويحدثنا الشقيق الاستاذ عبد الرحمن البنا عن الأيام الثلاثة الأخيرة للشيخ، عندما رأى أن ينقله من مكتبه إلى منزله ليكون تحت الرعاية «وبكرت صبيحة الاثنين 6 جمادي الأولى 1378هـ بعربة ركبها ومعه الأصول الباقية من الفتح الرباني بخط يده وبعض مراجع الحديث التي كان يعمل فيها في الجزء الثاني والعشرين ثم جلس في حجرة النوم وأشار بأن نصف المراجع في الشباك القريب بالحجرة ومعها الأصول وجعل يشير إليها ويتحدث عما انجزه حتى الآن.

وطيلة يوم الاثنين وهو يحدثنا حديث الواثق المؤمن وعرض لنشأته وصباه وبلدته وكان أصح ما يكون صحة وأتم عافية، حتى نسيت ما دخل نفسي من شعور يوم الأحد مساء، وقلت لقد من الله على الشيخ بالعافية وظننته سيمكث معنا طويلا يمتعنا بهذا الحديث وبهذا العلم ولكن قدر الله كان سابقا وأمره نافذا.

وفي يوم الثلاثاء انشغل بربه وانصرف عنا وكان يطلب الوضوء وينظر في ساعته اذا حضر وقت الصلاة فيؤديها حيث استطاع.

وقبل ظهور يوم الأربعاء من جمادى الأولى سنة 1378 هـ (19 نوفمبر سنة 1958) لقي ربه راضيا مرضيا ـ إن شاء الله ـ عن سبع وسبعين سنة وبضعة شهور..

بعد ان مات الشيخ رحمه الله اهمنا امر مواصلة الطبع وكتابة الشرح، ولم تأمن الأسرة كلها نفسها، وأرادت ان يقوم بذلك احد علماء أو شيوخ الأزهر، فاتصلنا بكثير منهم، وشاهدنا العجب من رفض البعض، ومطالبة البعض الآخر بأجر بحساب الملزمة وقال احدهم إن هذا العمل يتطلب «صبر أيوب، ومال قارون.. وعمر نوح!» واعتذر، واخيراً اهتدينا إلى الشيخ محمد عبد الوهاب البحيري، استاذ الحديث بالأزهر، وهو من بلدنا، وممن يقدرون الشيخ تقديرا خاصا، فقبل القيام بشرح وتخريج احاديث نصف الجزء الثاني والعشرين متطوعا، ووضعنا انفسنا في خدمته، وقام بهذه المهمة خير قيام، اثابه الله، ولكنه اعتذر عن القيام بالباقي لانتدابه للمغرب. وكونت الأسرة لجنة صغيرة من بعض المعنيين قاموا بالعمل التمهيدي ووقع على كاتب هذه السطور غربلتها ومراجعتها ووضعها في القالب الأخير في ضوء توجيه الشقيق الاستاذ عبد الرحمن بملاحظة الاختصار وعدم كتابة كلمة ليست لها ضرورة، لأن الخطأ يأتي مع الإسهاب.. وقد تم العمل والحمد لله وصدر الكتاب في 24 جزءاً. ومن المفارقات ان هذه الموسوعة التي تطلب طبعها من الشيخ وابنائه اكثر من ثلاثين عاما، طبعت «حالا» بطريقة الأوفست في بيروت دون أن نعلم وجاءنا الصراخ بذلك ولم نستطع ان نفعل شيئا ولكن الاستاذ سيف الإسلام ابن الإمام الشهيد استطاع ان يطبعه بعد ذلك مرتين! وكان الشيخ رحمه الله يقول ـ وهو يكافح وسط المصاعب لاصدار الكتاب جزءاً بعد جزء ـ ان هذا الكتاب سيكفي «الولد وولد الولد» وصدق الشيخ. فقد اعتمدنا عليه أنا والشقيق عبد الباسط، في أزمات الستينات، ثم جاء دور ولد الولد في الثمانينات.

يا صاحب «الفتح» كم في «الفتح» من دأب يكسبك فخرا على الأجيال والسلف ولم يكن ذاك كافيكم، فجدت لنا بمرشد الدعوة السمحاء في الخلف الله أكرمكم، والله الهمكم أنعم بكم، وبمن أودعت في النطف