جبهة وطنية للدفاع عن الرشوة

TT

اثارت حملة مكافحة الارهاب والدعوة من اجل العولمة ونظريات صراع الحضارات حملة مقابلة من الأوساط اليسارية والكثير من نشطاء القوى الوطنية. رأوا في كل ذلك سعيا امبرياليا تقوده الولايات المتحدة لنشر سيطرتها الكاملة على الشعوب النامية. بيد ان هؤلاء الأفاضل فات عليهم ان يلاحظوا جانبا آخر من هذه الحملة الامبريالية الحاقدة والغاشمة، ألا وهو قمع الرشوة والفساد في العالم الثالث ، ذلك التراث العريق الذي تمتد جذوره الى الوف السنين. بدأ الغربيون هذه الحملة على اسلوبهم المعهود القائم على المكر والرياء فأقاموا قبل سنوات منظمة الشفافية الدولية Transparency International لغرض فضح الدول والأنظمة التي تتعاطى الرشوة. وعمدت هذه المنظمة الى نشر جدول سنوي يسلسل هذه الدول. ومن جانبها تعاضدت الشركات الاحتكارية الاخطبوطية الامبريالية في الوصول الى اتفاقيات في ما بينها للامتناع عن دفع أي رشوة لأي مسؤولين او مقاولين او وسطاء في الدول النامية، مما ادى الى وقوع الكثير من المليونيرية الوطنيين في هاوية الفقر والافلاس حتى اضطر بعضهم الى تطليق بعض زوجاتهم وطرد الكثير من عشيقاتهم، الامر الذي جرى في كثير من الدول الأفريقية السوداء. وقد خصصت مجلة «الأيكونومست» (2 مارس) ملحقا خاصا بهذا الموضوع اثار كثيرا من التعليقات والردود من شركات النفط والمؤسسات الدولية (16 مارس).

هذه تطورات خطيرة اشار اليها بعض اساتذة الاقتصاد في الدول النامية فرأوا ان من الاسباب الرئيسية لنضوب العملة الأجنبية وانهيار العملة الوطنية وارتفاع نسبة العانسات يعود الى تقلص ورود الرشوات الأجنبية. لهذا المسألة بالطبع علاقتها بموضوع صراع الحضارات (الذي سماه البعض خطأ بصراع الجهالة والحضارة). فالتعاطي بالرشوة جزء من تراث عريق يمتد الى زمن الفراعنة وملوك بابل وآشور. فمما ورد في الكتب انه عندما استولى نبوخذنصر على اورشليم وسبى من فيها من اليهود ساق معه الى بابل كعبيد الف نجار والف حداد والف خبير بالصياغة والف خبير بالرشوة. ويجمع المؤرخون ان ذلك كان من اسباب ازدهار المدينة ونموها الاقتصادي العجيب. وظلت الرشوة تشكل في العراق عمودا من اهم اعمدة الاقتصاد الوطني. لولاها لما رأينا شيئا مما درسناه في مدارسنا عن العصر الذهبي للدولة العباسية. فالمقصود بالذهبي هنا هو المقادير الهائلة من الدنانير الذهبية التي كانت تتداول بشكل رشوات للمسؤولين والشعراء والأدباء. «زه ! واعطاه الف دينار». الحقيقة ان كل هذا التراث الأدبي والعلمي لم يكن بالأمكان قط لولا ما وراءه من دوران الرشوة في المجتمع. فالفلاح يدفع للسركال والسركال يدفع للشرطي والشرطي يدفع للمحتسب والمحتسب يدفع للوالي والوالي يدفع للشاعر والعالم والأديب. الرشوة جزء من التراث الوطني العريق. والمحاولات الغربية لقمعه واستئصاله لا ترمي الى شيء كما ترمي الى تدمير الهوية الوطنية وقتل خصوصيتنا وتميزنا واعرافنا. وهذا امر يقتضي الوقوف ضده وقفة متحدة واحدة دفاعا عن هذا الركن من اركان تاريخنا ووجودنا.