اللامنطق الإسرائيلي في مواجهة القمة العربية

TT

أيام... بل ساعات.... تفصلنا عن القمة العربية. والقمة العربية آخر محاولة للتفكير بشكل منطقي. ولكن ماذا يجدي المنطق حين يكون الطرف المقابل لك مجنونا؟

اسرائيل... وبعد انتفاضة دامية، هزت حكومتها وجيشها ومدنها، تعود لتجلس الى الطاولة وتقول: نحن نعرض عليكم حلا أمنيا، تعودون فيه أنتم الى الهدوء، ونعود فيه نحن الى استمرار الاحتلال «المتنور النظيف».

والولايات المتحدة.... وبعد أن فشل كل دعمها لآرييل شارون، في تمكينه من الانتصار على الفلسطينيين وتركيعهم، يأتي نائب رئيسها الى المنطقة ليقنعنا بأن الاحتلال الاسرائيلي لا أهمية له، وأن كل الأنظار يجب أن تتركز على العراق، الذي ينتج أسلحة تهدد العالم كله (..) بينما هو يلهث وراء «النفط مقابل الغذاء»، وحين يلاحظ أننا لا نفهم ولا نصدق، يذهب الى اسرائيل منتقما، فيعلن من جديد تحالفه مع شارون، ويطلق من جديد مواقفه ضد الرئيس ياسر عرفات.

وأمام هاتين الحالتين المجنونتين، ماذا يجدي التفكير المنطقي الذي تحاوله القمة العربية انطلاقا من المبادرة السعودية؟

لقد أطلق الرئيس جورج بوش قبل يومين، وبعد أن استمع من نائبه الى نتائج جولته في البلدان العربية، تصريحات مرعبة عن الرغبة الدائمة في الحرب، قال «ان الولايات المتحدة مصممة على التصدي للارهاب، وسعيدة لتمكن ديك تشيني من نقل هذه الرسالة الى القادة العرب. من المهم أن يدرك جميع هؤلاء طبيعة هذه الادارة، وألا يساورهم أدنى شك في أننا حين نقول اننا سنفعل شيئا فذلك يعني أننا نعتزم القيام به، نحن عازمون على شن حرب على الارهاب، وهذه ليست استراتيجية قصيرة المدى، اننا نفهم أن التاريخ دعانا الى التحرك بهدف جعل العالم أكثر سلاما وأكثر حرية، ولن نفوت هذه الفرصة». وبينما تنطلق هذه الدعوة للحرب لـ«الحرب الدائمة» التي بشر بها تروتسكي البلشفي من واشنطن، تنطلق من طهران، التي يهددها بوش بحرب مقبلة بعد حرب العراق، دعوة لإنشاء حلف من أجل السلام. ولكن هذه لغة لا يحب الرئيس بوش أن يسمعها، وبخاصة أنها تأتي من دولة هي جزء من «محور الشر» حسب الشعار الذي أطلقه واستنكره جميع قادة العالم. وهكذا فان محور الخير يبشر بالحرب، بينما بات محور الشر يبشر بالسلام. أليست هذه ظاهرة أخرى من مظاهر الجنون العالمي؟

قال الحكيم للاسكندر يوما وهو يتجول بين الجثث في ميدان المعركة: ماذا تريد أن تفعل الآن أيها القائد العظيم؟ قال سأفتح آسيا. وبعد آسيا ماذا تريد أن تفعل أيها القائد العظيم؟ سأجتاح افريقيا. وماذا بعد افريقيا؟ قال الاسكندر: سأعود الى اليونان. وأجابه الحكيم متعجبا: ولماذا لا تعود الى اليونان منذ الآن؟ ولا تزال معضلة هذا السؤال مطروحة منذ الاسكندر حتى الآن. فالقادة يفضلون طريق الحرب الطويلة، بينما يرى الحكماء طريقا قصيرة توصل الى الهدف، ويستغربون كيف أن القادة لا يرونها. وفي ظل انعدام الرؤيا، تجتمع القمة العربية لتحاول أن تفكر بشكل منطقي، ولو نيابة عن الآخرين.

وهذا الحكيم الذي خاطب الاسكندر، موجود بين صفوفنا حتى الآن، ونستطيع أن نعثر عليه لدى كل الشعوب. انه أحيانا كاتب يخاطب سياسيا، وهو احيانا صحافي يخاطب جنرالا. لنستمع الى صحافي اسرائيلي يخاطب آرييل شارون، السياسي والجنرال، انه يقول له بلغة العصر «لقد آن الأوان لأن تدركوا بأن استخدام القوة بشكل همجي يزيد من حدة الوضع، والمخرج الوحيد هو منح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة من دون أية ذرائع أو حجج» (عكيفا الدار). هل يوجد ما هو أوضح وأبسط من هذه النصيحة؟ ولكن الجنرال لا يستطيع أن يسمع، وهو بدلا من ذلك، يبحث مع الجنرال أنتوني زيني في الأمن، وفي الهدوء الأمني، ويرفض أن يحدد موعدا للبحث السياسي، ويرفض أكثر أن يحدد هدفا نهائيا للبحث السياسي. وهنا يواصل الصحافي الحكيم نصائحه للجنرال فيقول له «نتيجة السبعة عشر شهرا من المعارك، ومئات القتلى، وآلاف المعاقين، هي أنه لا يوجد اليوم قائد فلسطيني واحد، على استعداد لتوجيه أوامر وقف اطلاق النار، من دون أن يكون هناك بالمقابل جدول زمني مفصل، وضمانات دولية للانسحاب الاسرائيلي، ولا أقل من ذلك». ولكن الجنرال لا يستطيع أن يسمع.

لقد قضت اسرائيل سنوات طويلة، وهي تتعامل مع العرب انطلاقا من القاعدة التي تقول «ان العرب لا يفهمون الا بالقوة»، وها هو حكيم اسرائيلي آخر، يخاطب الجنرال «الفاتح» شارون قائلا له «لقد توصل الفلسطينيون الى الاستنتاج نفسه الذي يتفاخر به الاسرائيليون، انهم يقولون الآن: الاسرائيليون لا يفهمون الا بالقوة، فهل هم مخطئون؟». يجيب الكاتب نفسه (دان بارعون) قائلا «لقد أظهرت حرب يوم الغفران (حرب عام 1973) فشل المفهوم العسكري للقوة، وأظهرت الانتفاضة الفلسطينية الآن فشل المفهوم السياسي للقوة، فشل المفهوم المطلق بالقدرة على الاكراه». ويروي الكاتب أمثولة قيمة رواها له صديق من ايرلندا الشمالية، قال له «عام 1975 كنا قريبين من التسوية، ولكن من أدرك ذلك هم سريعو التعلم فقط، وقد احتجنا الى خمسة وعشرين عاما أخرى من العنف، لكي يدرك ذلك بطيئو التعلم». ونتساءل نحن اذا كانت القمة العربية تحتاج الى الزمن نفسه لكي يستطيع الآخرون التعامل مع محاولاتها المنطقية؟

لفد خاضت اسرائيل كل مفاوضات مدريد واوسلو، وهي تناور من خلف صيغة غامضة حول الانسحاب الذي تريده من الضفة الغربية وقطاع غزة، وتمسكت بصيغة القرار 242 بسبب ما فيها من غموض. وبالرغم من نتائج الانتفاضة الأخيرة التي أظهرت فشل شارون، فانه يعود الى المفاوضات وهو يطرح الصيغة الغامضة نفسها، بينما يعترف حكيم اسرائيلي آخر (ألوف بن) موجها النصيحة الى شارون «ان الجانب الفلسطيني غير مستعد للصيغ الغامضة، فهم يطالبون بالتحديد المسبق، في أن تقوم حدود دولتهم على خطوط الرابع من حزيران (يونيو) 1967، وهذا هو ما تطرحه المبادرة السعودية»، التي بوركت في قرار جديد من مجلس الأمن.

ولكن حالة الجنون في اسرائيل ليست شارونية فقط، فهذا هو أفرايم سنيه أحد أبرز قادة حزب العمل «اليساري»، يدعو الى ترحيل الفلسطينيين من داخل دولة اسرائيل، وبدلا من أن يستعمل كلمة (ترانسفير) التي يستعملها اليمين، لجأ الى استعمال اصطلاح (تبادل سكاني) و(تبادل مناطق)، يشمل العرب في اسرائيل واليهود في المستوطنات. وقد رد عليه الدكتور (سليمان أغباريه) رئيس بلدية أم الفحم، وهي أكبر مدينة فلسطينية مقترحة للتبادل قائلا: انه يوافق على الاقتراح شرط أن تعيد اسرائيل الى أهالي أم الفحم 120 ألف هكتار من الأرض الزراعية التي سلبتها اسرائيل من سكان المدينة عام .1948 وسعيا وراء المنطق نفسه، لماذا لا نقترح على اسرائيل العودة الى قرار تقسيم فلسطين، الذي قامت على أساسه دولة اسرائيل، ثم تجاوزته مرتين، مرة عام 1948، ومرة ثانية عام 1967؟ ان قرار التقسيم يؤدي الى تبادل المناطق (والسكان) الذي يوفر لاسرائيل الأمن الديمغرافي الذي تعيش في هاجسه، على أن تتضمن العودة الى قرار التقسيم بندا جديدا يضاف اليه، يؤكد أنه من المحظور على اسرائيل أن تعود الى الحديث عن الخطر الديمغرافي بعد خمسين عاما جديدة.

ان سماع، مجرد سماع، اسم قرار التقسيم الصادر عام 1947، يثير القشعريرة لدى الجميع في اسرائيل، ولكن لماذا لا يدرك الاسرائيليون أن سماع كلمة (ترانسفير) يثير لدى الفلسطينيين القشعريرة نفسها؟ السبب أن الاسرائيليين تعودوا أن يفكروا بانفسهم ولأنفسهم فقط، ومن دون أي التفات ولو للحظة واحدة، الى مطالب الطرف الآخر. وهم لذلك يفاجأون دائما، ويقعون في الخطأ دائما. وما تحاوله القمة العربية بعد ايام..... أو بعد ساعات.... هو أن تذكرهم بضرورة التفكير بمطالب أهل الأرض واصحابها. وهذه هي المهمة التي تكاد تبدو عصية على المنطق، في ظل حالة الجنون العالمية السائدة، من اسرائيل الى واشنطن.