مظلومة في أروقة التاريخ

TT

مسكينة ماري انطوانيت التي فقدت رأسها في النصف الثاني من اكتوبر (تشرين الاول) قبل اكثر من مائتي عام بعد عذاب مرير واهانات فظيعة وصلت الى حد تقديم رأس صديقتها على طبق واتهامها بزنا المحارم والنوم مع ابنها، وكأن كل ما جرى في حياتها لم يكفها، فقد أكمل التاريخ بعد موتها صبغها بصورة هي أبعد ما تكون عن شخصيتها تماما كما حدث مع صاحبنا الاندلسي ابي عبد الله الصغير.

وحقيقة قصتها مع الكيك والخبز ليست كما تروى حين يقال ان المستشارين اتوها لينقلوا صورة عما يجري خارج القصر وقالوا ان الناس لا يجدون الخبز، فقالت ببرود كما تزعم الرواية لماذا لا يأكلون الكاتو.

الرواية الحقيقية التي نص عليها اكثر من مؤرخ لتلك الحقبة المضطربة ان خادمتها وصفت لها حالة الجوع الفظيعة التي يعاني منها الناس في باريس التي كانت مثل مقديشو على ايامها واكدت للملكة ان ما يبقى في قعر الدست (قحاطة الطنجرة) هي عندهم بمثابة وليمة. وكانت ماري انطوانيت تحب الطعام المحروق الذي يبقى في قعر الطناجر، فعلقت كما يجري في أي حديث عادي على جودة ذلك الجزء المطبوخ الى حد الاحتراق، ومن تلك العبارة التي تحورت ولدت الجملة التاريخية: انهم لا يجدون الخبز لماذا لا يأكلون الكاتو..

وحكاية هذه المرأة مأساة من اولها لآخرها، فقد زوجتها امها المتسلطة ملكة النمسا الى رجل ضعيف جنسيا، وبالكاد يزور سريرها، وكانت في الخامسة عشرة يعني في اول أطوار المراهقة.

ووسط دسائس قصر فرساي لم تجد الطفلة النمساوية من يتحدث إليها او يفهمها، فصنعت لنفسها ووصيفاتها اللواتي رافقنها من بلدها كوخا صغيرا في حدائق فرساي، وصارت تلبس لباس الفلاحات وتحاول ان تعيش حياة مختلفة بعيدا عن طبقة لم تحبها ومجتمع لم يفهمها.

وهناك من يفسر هذه الحادثة كتفسير حب اعتماد زوجة المعتمد بن عباد لحياة الفلاحين، وطلبها من زوجها ان يسمح لها بالعيش على طريقة الفلاحات، فاستجاب لطلبها وعجن المسك بالعنبر، وامر بفرشه في حديقة القصر لتلعب كالفلاحات بالطين هي وجواريها.

وحتى لا نبتعد عن ماري انطوانيت في سيرة مظاليم التاريخ ومظلوماته وما اكثرهم واكثرهن لا بد من الاشارة الى ان بعض المؤرخين يؤكدون انها طالبت زوجها بحركات اصلاحية لتحسين اوضاع الناس لكن الذين لا يحبونها ويريدون لها ان تبقى على صورتها البشعة يقولون انها نصحت فقط بمهادنة الثوار الى ان تصل المساعدات الخارجية من شقيقها في النمسا وشقيقتها في ايطاليا، فقد نجحت أمها المتجبرة في ان تجعل اولادها وبناتها ملوكا لنصف دول اوروبا.

وما بين هاتين الصورتين المتعاكستين والمتناقضتين هناك منطقة رمادية لا يريد أحد ان يقترب منها ليستخلص الحقيقة، فضحايا التاريخ مثل ضحايا الزلازل تصيبهم الضربة الاولى، فتميت سمعتهم فورا بالسكتة القلبية، وتحولها الى اشلاء بين انقاض.

ولم يظلم التاريخ احدا ثم عاد الى انصافه، فاحكامه في هذه الحالة مثل احكام من يأمر بالاعدام، وينفذ ثم يكتشف خطأه بعد ان يفوت الاوان فيسكت حتى لا يورط نفسه ويكون البريء قد ذهب ضحية حكم اصدره قضاة مستعجلون لا يقلون اجراما عمن يقف امامهم في قفص الاتهام داخل قاعة محكمة نادرا ما تعدل في احكامها.