اليهودية والإسلام ديانتان تتوخيان الدنيا والآخرة في آن وتريان الإنسان مخلوقا مكلفا

TT

أكد الملك الراحل الحسن الثاني في الحلقة السابقة من «اسئلة الاسلام»، ان الاسلام اكبر من ان يدمج في اي تصور كان. كما تحدث الملك الراحل عن الخيال الغربي والارهاب، وقال عنه انه يسير نحو تأسيس خرافة حديثة تجدر بالعاقل مجابهتها بالواقع. كما شرح الحسن الثاني في اجوبته على تساؤلات الصحافي الفرنسي اريك لوران، مصادر التشريع في الاسلام. ويقول ان القرآن يحتوي على كل ما هو ضروري وكاف لهداية الانسان وارشاده الى سبيل الخلاص.. فالقرآن الكريم يفتتح عهدا تاريخيا جديدا ولا يدعي انه نهاية التاريخ. كما أكد ان الشريعة الاسلامية لا تلغي القوانين الاخرى.. فالقانون الاسلامي يحترم القوانين الاخرى ما لم تتناقض والعقيدة الاساس. وأضاف «هناك مبدأ قانوني يقول ان القوانين التي جاء بها من سبقونا صالحة مبدئيا لنا نحن كذلك». وقال ان وجود الانسان في حد ذاته دليل على أن لا خلاص ولا عيش ممكن الا في إطار الدولة. كما أكد ان اكرام الضيف حق له وواجب على مضيفه وهو امر مقدس حتى ولو كان هذا الضيف مشركا. وحول العنصرية في الاسلام قال ان الاسلام شأنه شأن الديانات التوحيدية الاخرى حارب كل انواع العنصرية وخفف من حدة الممارسات الاستعبادية. كما تحدث عن الردة وقال ان الايمان ليس رأياً يمكن لصاحبه تغييره وقتما شاء، وان الاسلام يفضل انقاذ النفس ولو كانت مذنبة. وفي هذه الحلقة يقول الحسن الثاني ان اليهودية والاسلام ديانتان تتوخيان الدنيا والآخرة، وان المسلمين واليهود يرون الانسان مخلوقا مكلفا من قبل الله تعالى.

وفي ما يلي الحلقة الحادية عشرة.

س: اسمحوا لي يا صاحب الجلالة أن أشير إلى أن الإسلام بعودته إلى إبراهيم، لا يتبنى سوى شكل عتيق من التوحيد، لا التوحيدَ في أغنى أشكاله وأكملها. فما رأيكم؟

ج: ليس هناك انقطاع في الصلة التي تربط ما بين الديانات. فالواحدة منها تكمل الأخرى في إطار استمرارية تنشد الكمال، حيث تنضج فكرة الوحدة تدريجيا من ديانة إلى أخرى، وتصبح قابلة أكثر للاستيعاب. وبفضلها شكَّل الإسلام مدرسة لم تتردد أبدا في قبول أي شكل من أشكال التعايش، سواء كان ذلك بين الأفراد أم بين الجماعات. وبعد مرور قرون على مجيئه، ظلت تلك الفكرة نبراسا ينير السبيل أمام مفكرين من أمثال الميموني وابن رشد. فهُما لم يضيفا جديدا حول فردانية الله تعالى، لكنهما عمقا التفكير حول آثارها في مجال البحث في العلوم الربانية.

س: ماذا يا صاحب الجلالة عن النزاعات التي تقوم ما بين المسلمين أنفسهم؟

ج: إن المسلمين بشر كغيرهم، يتجادلون في أمورهم ويتخاصمون، وأحيانا يلجؤون إلى أساليب يرفضها القرآن لكنه لا يجهلها. فاعتبارًا لكون النزاعات واردة بين المسلمين كغيرهم، يبين القرآن السبلَ الكفيلة بحلها، حيث جاء في الآيتين التاسعة والعاشرة من سورة الحجرات: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما. فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتي تفيء إلى أمر الله. فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين. إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم».

س: لا يحق إذن لمسلم أن يقصي مسلما من جماعة المؤمنين.

ج: إن ذلك ليس من ثقافته. فإذا كانت العادة عند المسيحيين، وتحديدا عند الكاثوليكيين أن يُخَصَّصَ أغلبُ مجامعهم للطرد والفصل من جماعتهم، فذلك يرجع دون شك إلى كون المجامع الدينية التي تُعقد تضم الأساقفة والمطارنة لا رؤساء الدول وعلماء الشريعة ورجال السياسة. فهؤلاء لديهم من الإحساس بالمسؤولية ما يمنعهم من التلاعب بقرارات الإقصاء. والإسلام ليس حزبا ولا هو مؤسَّس على غرار النظام الكنسي. وليس هناك في الإسلام من سلطة مطلقة يحق لها أن ترمي من شاءت بالمروق والضلال.فإذا اتفق أن رأى أحد لنفسه الحق في ذلك أو استشعر أن الواجب يفرضه عليه، فإن ذلك لن يكون إلا في صالح الجماعة ومن أجل استعادة التضامن ما بين أفرادها دونما إلحاق ضرر بأحد.

س: لكن الانطباع السائد هو أن بإمكان أي شيخ أن ينصب نفسه قاضيا ويصدر تبعا لذلك أحكامه.

ج: هذا غير صحيح البتة. فعلماء الدين يبدون رأيهم في كل حالة مستندين في ذلك إلى حجج منطقية وقوية. والفقهاء والمفكرون يناقشون المسائل المعقدة ويضعونها في سياقها التاريخي، ويبحثون عن الوسائل القمينة بحل القضايا العاجلة. والحل ذاته يعود إلى العزيمة السياسية التي تتبناه. فلتكونوا مطمئنين، لأن المسلم غير المتسامح ليس مسلما. فالمسلم الفاضل إنسان متسامح. وإذا كان نبينا (ص) يمنع الحروب الدينية ما بين المؤمنين بالكتاب، أي بين حفدة إبراهيم، فما القول في النزاعات ما بين المسلمين أنفسهم الذين عاشوا أزيد من أربعة عشر قرنا يسود بينهم التضامن، والذين يجدون في القرآن الكريم المبادئ الأساسية لتحقيق التصالح في ما بينهم! الإسلام واليهودية س: هل في المبادئ العقدية المشتركة مع اليهود ما يفسح مجالا أوسع للتعايش بين الديانات؟

ج: إن هناك آصرة خاصة تربط ما بين اليهود والمسلمين، تكمن في أصلهم السامي المشترك. غير أنها ما كانت لتكتسي أي نوع من الأهمية لولا إيمان المسلمين واليهود معا بموسى، صاحب أول كتاب منزل. فالإيمان بموسى وعيسى عليهما السلام أمرٌ مفروض على المسلم لا يصح إسلامه إلا به: «قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون» (2/ 136).

والقرآن الكريم يقرر صراحة أنه ليس أول كتاب منزل، إذ نجد فيه: «ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة، وهذا كتاب مصدِّق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين»(46/12). س: هل توافقون على الفكرة القائلة بأن اليهود هم شعب الله المختار؟

ج: إن الله تعالى، على امتداد النص القرآني، يذكِّر اليهود بالعهد الذي أخذه عليهم، إذ نجد في سورة البقرة مثلا (الآية 47): «يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين». غير أن هذا التفضيل لا ينتقص من فكرة التوحيد شيئا، فالله تعالى رب العالمين جميعا. كما أن التفضيل لا يجيز لليهود التجبر على الناس ولا التعطش إلى الأموال والثروات، بل إنه يذكِّر بني إسرائيل بأنهم شعب مبارك لأنهم من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وهذه ميزة تشاركهم فيها الشعوب العربية أيضا، غير أنها ميزة تتوقف صحتها ودوامها على مدى التزام الشعب بالتعاليم الإلهية، ووفائه بالعهد. فالتعاليم والعهد والكتاب كلها مظاهر مختلفة تعبر عن حقيقة واحدة هي الذكر المنزل.

س: أليس هناك نوع من التعصب ضد اليهودية؟

ج: لا وجود عندنا لتعصب مبدئي ضد أحد. فلم يكن من شأن أحد من أسلافنا ولا من المسؤولين المسلمين عموما أن يحملوا الناس على الاعتقاد جميعا بعقيدة واحدة أو التزيي بزي واحد، ولا خصوا يوما أحدا من رعاياهم بفضل على الآخرين ولا بخسوه حقه لكونه نصرانيا ذا طيلسان أو مسلما بعمامة أو يهوديا يعتمر «الكيبا». وبالمناسبة، فإن لهذا اللفظ في لغة المغاربة قرين لفظي ينتمي وإياه إلى الجذع نفسه، هو لفظ «قب»، الذي نستعمله للدلالة على غطاء الرأس الذي يميز الجلباب المغربي.

س: لماذا إذن نرى القرآن لا يذكر اليهود إلا ويقرن اسمهم بألفاظ اللعنة والغضب؟

ج: إنكم تبالغون ! فموسى عليه السلام هو عندنا أول نبي مرسل أُنزل عليه الكتاب، ولا إسلام لمن لا يؤمن به وبرسالته. على أننا نؤمن بأن كلام الله تعالى لا يجوز عليه الخطل، ولذلك فإننا نرى أن الخطل لا يمكن أن يقع إلا حين يتدخل الإنسان فيحول الكلم عن موضعه بالتحريف أو التأويل الخاطئ أو سوء الفهم الذي مرده إلى ضعف العقل البشري وقصور إدراكه. فالوحي عندنا سلسلة لا انقطاع فيها ما بين موسى ومحمد، عليهما وعلى الأنبياء جميعا أفضل الصلاة وأزكى السلام، وكل انقطاع هو بالضرورة حالة طارئة. فالقرآن لا يلعن اليهود باعتبارهم يهودا، ولكن يهود الجزيرة ـ مثلهم في ذلك مثل النصارى ـ ناصبوا النبي العداء وحاربوه بلا هوادة. وقد ناوأه اليهود بالخصوص شديد المناوأة. وأولئك هم من يقصد القرآن في بعض سوره، باعتبارهم عربا يهودا عادَوا النبي وكانوا ـ ما بقوا بالجزيرة ـ لا يفتؤون يثيرون القلاقل والفتن. لكن يجب ألا ننسى الظرف التاريخي الخاص الذي وقعت هاته الأحداث فيه. فهو ظرف يبقى في كل الأحوال محدودا في الزمان وفي المكان.

س: ألم تكن هناك أحكام عنصرية مسبقة ضدهم، وآراء تزدريهم بعض الازدراء؟

ج: رويدك! لقد سبق أن قلنا أنْ لا عنصرية ولا تفرقة في الإسلام. ثم إن القرآن حافل بذكر موسى واليهود. فسورة الأعراف، فيما عدا الآيات المدنية ـ من 163 إلى 170 ـ تكاد تكون مخصصة جميعها لذكر سيدنا موسى وتاريخ اليهود. بل لقد بلغنا عن بعض العلماء قولهم «كاد القرآن أن يكون موسويا»، إشارة منهم إلى المكانة التي يتفرد بها موسى وقومه في القرآن الكريم، مكانة جعلت هذا النبي يحتل في ذاكرة الإنسان المسلم وفي ضميره الديني حيزا مهما. فقصص الأنبياء مع أقوامهم يسردها القرآن الكريم للعبرة، وفي ذلك مقومٌ أساسٌ من مقومات التربية القرآنية. وكثير من المسلمين يحملون اسم موسى أو اسم المسيح (عيسى)، عليهما السلام، وهذان الاسمان عندنا مقدسان.

العداوة هي الاستثناء س: ألا ترون أنه من السهل التركيز على ما من شأنه أن يوحي بأن المسلمين لا يحملون مبدئيا لليهود بغضا ولا عداوة، على حين يشهد الواقع بغير ذلك؟

ج: إن الصداقة كانت دائما هي القاعدة بين أتباع الدينين. أما العداوة، فهي الاستثناء. ولا شك أنكم قد سمعتم بقصة أم المؤمنين صفية بنت حُيَيٍّ، إحدى زوجات النبي. فقد اشتكت إليه (ص) من ضرائرها اللواتي عايرنها بأن أباها كافر، فما كان منه عليه السلام إلا أن قال لها بأن تجيبهن أنها من ذرية نبي الله هارون أخي موسى عليهما السلام. وإننا نفخر ـ نحن المغاربة ـ بأن من بين أكبر علماء مذهبنا المالكي أناسا من أصل يهودي، كالفقيه «ميارة» وغيره، ممن كانوا يفخرون بحيازة الشرفين، شرف الانتماء إلى سلالة موسى، وشرف الاعتقاد بعقيدة محمد، عليهما وعلى سائر الأنبياء والمرسلين الصلاة والسلام.

س: لكن هذا الإدماج، إذ يحافظ على ميراث موسى، يفسره بطريقته الخاصة، أليس كذلك؟

ج: تماما، فالإسلام تذكيرٌ لا ينفي شيئا جوهريا في عقيدة التوحيد الحنيفة.

س: تعنون العقيدة كما يراها الإسلام...

ج: كلا، فالأمر لا يتعلق بتأويل ذاتي. إذ تبقى دياناتنا جميعها، رغم الاختلافات، مرتبطة بفكرة التوحيد ومنبثقة عنها. وما يحفل به القرآن من إحالات متعددة على الرسالات السابقة خيرُ دليلٍ على ما للتذكير من دور في الحفاظ على ميراث السابقين والاستفادة منه. ومن آثار ذلك الحفاظ الملموسة كونُ أغلب الأحكام التي أبطلها الإسلام من أحكام الديانات السابقة، لا تزال رغم ذلك قائمة بشكل من الأشكال في القوانين الإسلامية العامة، وذلك في إطار التسامح الاجتماعي والتعايش بين المسلمين واليهود. وتاريخ اليهود إنما يتم سرده، كما قلنا، للعبرة. فالمسلم يعرف جيدا قصة موسى مع فرعون، وكيف أنجاه الله منه، وكيف نزلت عليه الألواح التي تحمل الوصايا العشر، وكيف صعد إلى جبل سيناء وغير ذلك. وتبلغ القصة ذروتها بقوله تعالى (7/159): «ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون». أي أن موسى قد أدى رسالته، وهدى الله على يده من شاء لهم من قومه الهداية.

س: كأن هذه الآية تعني كون التشريع أهمَّ ما جاءت به العقيدة اليهودية. أليس كذلك؟

ج: دون شك. غير أن كلمة «الحق» التي تحتمل معنى «القانون» تحتمل كذلك معنى «الحقيقة»، أي مضمون التعاليم المنزلة جميعها. فالإسلام يربط الشريعة، أو القانون، بالعدل والرحمة، فيجعل منها جميعها شيئا واحدا، ويرُدُّ ما فيه تنازعٌ إلى الله والرسول، أي إلى تحكيم القاعدة المستنبطة من الشريعة. وهو يجعل أولَ همه تحريرَ القانون من النزعات البشرية. لذلك، فإنه يعتبر أن الانصياع لأوامر الشريعة ونواهيها لا يمثل سوى أولى درجات الدين.

س: أليس ذلك سر إعجاب الإسلام باليهودية؟ وإن كانت هذه هي الحال، أفلا يعني ذلك أنه منبهر بالصرامة ويميل إليها أكثر من ميله إلى الحلم والتساهل؟

ج: الشريعة تعبير عن مقاصد الدين، والدين رحمة بالعباد، تعبر عنها الشريعة التي لم تنسخ المسيحية منها شيئا. كما أنه لا يمكن الانتساب إلى الشريعة دون نية صادقة ودون إخلاص عميق. فالإيمان ـ وأعلى درجاته الإحسان ـ هو تَقْوَى صادقةٌ تجعل اللسان ترجمانا للجنان. غير أن مبدأ ذلك كله الخضوعُ للشريعة والإذعان لمقتضياتها. واليهودية هي العهد، والعهد هو الشريعة. والكتاب والشريعة بنظر الإسلام شيئان متلازمان لا ينفصلان. واللغات الأوربية أغلبُها تعبِّر عن معنى التكليف بأفعال تــــقارب في معناها فعل prescrire.

س: هل الأمر كذلك بالنسبة إلى اللغة العربية؟

ج: إن العربية تستعمل فعل «كتب» الذي يؤدي معنى «خَطَّ»، لكنه يحتمل كذلك معنى «أمر» و«أوصى»، كما جاء في القرآن: «فلما كُتب عليهم القتال إذا فريق منهم(...) وقالوا ربنا لِمَ كتبت علينا القتال»(4/77). فالتاريخ يشرح العلاقة ما بين التكليف والكتابة والشريعة. ويتبين الدورُ الاجتماعي المنوط بالكتابة في كون التعهدات التي تتضمنها العقود، غالبا مّا تُثبَت كتابيا. فنحن كلنا من شعوب الكتابة التي تُحَمِّل المسؤولية وتهدي سواء السبيل. وقد جاء في القرآن الكريم (21/48): «ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً وذكرا للمتقين». والقرآن ليس منافسا للكتب المنزلة، إذ هو لا يعدو أن يكون كتابا منها، لكن كتابا «فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون، بشيرا ونذيرا»(41/2-3).

س: ألا يبدو هذا كله غريبا بالنظر إلى ما يطبع علاقات العرب باليهود من مظاهر العداوة والبغضاء بين الحين والحين؟

ج: يقول تعالى عن بني إسرائيل (45/16): «ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين». وأحسبكم مخطئين باستعمالكم كلمات من جنس «العداوة» و«البغضاء» في هذا السياق، فلا يقول بذلك إلا جاهل بالتاريخ أو رجل يخال المحبة والخصام شيئين لا يجتمعان في قلب. فاليهود ـ فيما عدا من اعتنق الإسلام منهم ـ اتخذوا جميعهم موقفا معاديا من رسالة النبي محمد (ص)، لكن ذلك لم يمنع كثيرا من الطوائف اليهودية من العيش في أرض إسلامية، تحت حماية الإسلام، ومن الاستظلال بمظلته الشرعية. ومما لا جدال فيه أن العلاقات ما بينهم وبين المسلمين كانت دائما علاقات ممتازة. فظاهرة كظاهرة «الشوء» التي تعرض لها اليهود في أوربا وعانوا منها، لا يمكن أن تحدث في العالم الإسلامي، نظرا لأنه لا وجود فيه لمنطق الرفض الذي أدى في أوربا إلى حدوث تلك الظاهرة. ولئن قيلت هنا أو هناك كلمة قاسية في حق اليهود، فإن القرآن يتحدث عنهم ـ شأنهم في ذلك شأن المسيحيين ـ باعتبارهم يهودا عربا أو يهودا اعتنقوا الإسلام.

س: هل ما يربط الإسلام باليهودية أوسع وأوثق مما يربطه بالمسيحية؟

ج: لقد كان للإسلام خلال عصوره الأولى علاقات بمسيحيي ويهود المنطقة العربية على وجه السواء. وكما اضطلع النصارى العرب بدور مهم في نقل النصوص الإغريقية إلى العربية في المشرق، فإن اليهود هم من تكفلوا بدور الوسيط الثقافي في الأندلس بعد ذلك.

لكن المهم هو الظرف الجديد الذي أتاحه الإسلام، والذي عرفت الطوائف اليهودية بفضله، سواء في المشرق أو في المغرب، استقرارا وتطورا غير مسبوقين في تاريخها.

س: هل كان عداء اليهود للإسلام صريحا أيام نزول الوحي؟

ج: يمكن أن نميز في يهود ذلك الزمن بين الذين اعتنقوا منهم الإسلام ـ وهم المقصودون دون شك بقوله تعالى (3/198): «وإن من أهل الكتاب لَمَن يؤمن بالله وما أنزل إليكم» ـ والذين لم يسلموا، لكنهم عاشوا بين المسلمين وكأنهم منهم، وهم المقصودون بالآية: «ليسوا سواء»(آل عمران،113)، وطائفة ناصبت الإسلام العداوة وحاربته دون هوادة، وهم الذين يصفهم القرآن فيقرنهم بالمشركين بقوله إنهم (5/81) «أشد الناس عداوة للذين آمنوا». فالكتاب يحسن تمييز كل فئة عمَّا عداها، ولا يعامل مجموع اليهود وكأنهم كتلة كونية كبرى لا تستحق إلا العداء.

الدنيا والآخرة س: كيف نفسر الاهتمام الذي يوليه النبي لليهود؟

ج: إنه اهتمام طبيعي. فاليهود، مثلهم في ذلك مثل المسلمين، ذوو عقيدة توحيدية خالصة. وهم يؤمنون الإيمان نفسه بفضائل القوانين والشرائع. فالديانتان معا هما، كما يقال، ديانتان تتوخيان الدنيا والآخرة في آن، واليهود والمسلمون لديهم جميعا ذلك الشعور التقي الذي يجعلهم يرون في الإنسان مخلوقا مكلفا من قِبل الله تعالى. وإن كان هناك من اختلافات بسيطة، فيجب ألا تُضلنا عن هاته الحقيقة. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يعتبر المؤمنين بالكتاب جميعا أمة واحدة، فيدعوهم إلى الإيمان بالحقيقة الواحدة المطلقة، وإلى الاتفاق على كلمة سواء.

س: لكن ليس هناك اتفاق ما بين هاته الديانات، خصوصا ما بين المسلمين واليهود! ج: إن الاختلافات ما بين الديانات المنزلة ليست خلافات ولا تناقضات، بل مجرد تعدد في وجهات النظر. والتمييزُ بين هذا وذاك هو ما يمكِّن من تأليف القلوب حول الأهم، في غيرما عدوان ولا احتقار. فالأمر يتعلق بديانات حقة أصلُها ومنبعها واحد، لا يمكن الفصل بينها فصلا جذريا، كما لا يمكن خلطها بعضا ببعض خلطا لا تمييز معه.

س: برأيكم، ما قول اليهودية في الإسلام؟

ج: إن النزاعات الجدلية قليلة بين اليهود والمسلمين، لأنه ليس من السهل على أتباع موسى أن يجادلوا في دين يجعل رسالة موسى من ضمن ما يجب على أتباعه الإيمان به. ولن تجد لمثل هاته المجادلات أثرا إلا في الكتابات التي اهتمت بالدفاع عن العقيدة اليهودية، والتي هي في الواقع أقرب إلى التأملات المقارِنة.

س: هل من مثال على ذلك؟

ج: لطالما حدثني من أعرف ممن لهم بثقافة الأندلس دراية، عن شاعر وكاتب وفيلسوف وطبيب أندلسي يهودي عربي كبير، هو «يهوذا هالافي»، المعروف باسمه العربي «أبو الحسن اللاوي»، الذي ألف كتابا عنونه «كتاب الحجة والبرهان في الذود عن الدين المهان»، قدم فيه حججا على لسان رجل غير عربي يمكن إيجازها كالتالي: «إذا كان كتاب نبيكم حجةً عندكم ومعجزة ودليلا على نبوته، فإنه ليس كذلك عند من لا يتكلم العربية. أما ما يُنسب إلى نبيكم من المعجزات الأُخَر، فلا يمكن الركون في شأنه إلى الأقوال المتناقَلة وحدها. فإذا نزعنا عما تدعون قشورَ الظن وتهاويل الخيال، وَضَحَ خطله. فالله سبحانه لا يمكن أن يكلم بشرا». وفي هذا النوع من «البراهين» ما يكفي للتدليل على أن المفكرين اليهود الذين جادلوا الإسلام لم يجدوا كثيرا مما يجادلونه به. والسبب في ذلك بسيط، يتلخص في انعدام أي تناقض عقيدي بين دينهم وبينه. وحتى في أيام النبي، فإن ذلك الجدل لم يجاوز مسألة صدق رسالته صلى الله عليه وسلم.

س: وما قول الإسلام في اليهود؟

ج: إن الإسلام هو آخر حلقة في سلسلة الرسالات التي كانت خاتمتها رسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.فالتوراة تقول (أشعيا، 56/7): «سيكون بيتي بيت صلاة لكل الأمم»، ويقول (صوفوني، 3/9-10): «سأبدل الشعوب شفاها بشفاهها لتذكر اسم الله جميعها ولتعبده». والإسلام يقر هذا التصور، إذ نجد في القرآن (40/53): «ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب». وهو هنا يتوجــه إلى يهود المديــنة ـ التي كانت تدعى يثرب وقتذاك ـ لا إلى اليهود جميعا. أما ميزة هؤلاء عمن عداهم، فهي تتمثل أولا في كونهم أحفاد تقليد عريق من الوحي، ثم في ما ورثوه من مجد عن أجدادهم، وأخيرا في ما عرفوه من رفعة على عهد النبي. فقد كانت هناك عشرون قبيلة يهودية تملك الكثير من الأراضي والعقارات في يثرب (أثريبيس، كما ورد اسمها ذو الأصل المصري على ألسنة المؤرخين الإغريق) وفي ضواحيها. فجزيرة العرب كانت لليهود ملاذا ومرتعا.

س: إن صح فهمي يا صاحب الجلالة، فإن الخلاف الديني بين اليهود والمسلمين نشأ من تواطؤ قديم؟

ج: إن الخلافات الدينية قليلة محدودة. ومرد ذلك إلى أن الخلاف ليس قائما حول المبادئ، فالديانتان معا تدعوان إلى توحيد الله تعالى، وإلى الخضوع لتعاليم الشريعة والتصديق بالوحي. والخلاف الوحيد بينهما معادُه رفضُ اليهودِ تصديقَ الرسالة المحمدية. فاليهود أتباع موسى عليه السلام ينكرون على سيدنا محمد (ص) كونه أُرسل إلى الناس كافة، ولا يقبلون برسالته دينا ارتضاه الله لعباده أجمعين. ولما كانت كل رسالة جديدة تنسخ بالضرورة بعضا مما جاءت به سابقاتها، فإن العلماء اليهود رفضوا أخذ ذلك بعين الاعتبار.

الناسخ والمنسوخ س: إذن، فاليهود يرفضون الاعتقاد بأن الإسلام نسخ اليهودية. أليس ذلك أمرا طبيعيا؟

ج: طبيعي أن الأمر أكثر تعقيدا من الناحية التاريخية، أو لِنَقُلْ إنه ليس بهاته البساطة. فاليهود لم ينكروا جميعهم رسالة النبي (ص)، إذ إن طائفة منهم كانت لا تجادل في صحة الرسالتين المسيحية والإسلامية، لكنهم كانوا يرون أن رسالة كل من النبيَّين موجهة إلى قومه دون غيرهم، ولا تعني بني إسرائيل في شيء، ولا تأثير لها بالتالي في شريعة موسى. وقد كان من بين أنصار هذا الرأي بطبيعة الحال يهودٌ متعصبون، ينتمون إلى جماعة عرفت باسم «العيساوية»، لكن كان من بينهم آخرون أيضا، كشأن «ناثانيل ابن الفيومي» الذي كانت له مراسلات مع الميموني، والذي كان مقربا من بعض الفرق الباطنية المتأثرة بأفكار المسلمين الشيعة.

إن العلاقات ما بين اليهود والمسلمين علاقات غنية ومتشعبة بشكل لا مجال معه لأي تعميم ولا حكم مطلق. وفي الواقع، فإن أهم ما لا تقبل اليهودية به من الإسلام هو نظرية الناسخ والمنسوخ. وهذا الرفض يثير دهشة المسلمين الذين يرون في النسخ إرادة إلهية تقضي بتغيير أمر صادر مسبقا، إما بتعديله أو بالعدول نهائيا عنه. وهي أمور مرجعها ومصدرها الإرادة الإلهية العليا، علما أن المنسوخ والنسخ والناسخ كلها مسطرة في علم الله الأزلي. ويرفض المفكرون الإسلاميون من جهتهم فكرة نظرائهم اليهود القائلةَ بأن الله سبحانه يغير رأيه، لأنه تعالى لا يصدق عليه عندنا ما يصدق على مخلوقاته من تراجع أو تغيير للرأي، لأنه تعالى لا يُبَدَّلُ القولُ لديه.

س: ماذا إذن عن مسألة تحريف التوراة؟

ج: لنتكلم أولا عن مسألة صحة النصوص، لأنها مسألة ثار حولها الجدل واحتدم بين علماء الدين اليهود والنصارى والمسلمين، لكن دون أن يبلغ الأمر حد قطع الرحم الروحية التي يعلم أهل الأديان الثلاثة أنها تصل ما بينهم. غير أن وجهة النظر الإسلامية يدعمها ما يتمخض عنه البحث في تاريخ تدوين التوراة من حقائق. فقد بلغني أن الباحثين في هذا المجال يقفون مندهشين من الشبه الدامغ الذي يجدونه بين مفرداتٍ وأفكار خاصة بالأعمال الأدبية الإغريقية، وبين بعض ما ورد في التوراة. ويضرب لنا الفلاسفة على التضارب التاريخي مثلا في مثال كلمة «كسيطاه»(سفر التكوين، 33/19)، والتي يغلب الظن أنها تنحدر من كلمة «كيسته»، اسم وحدةٍ نقدية يونانية ظهرت، كما يعتقد المؤرخون، بعد ذلك بزمن، حوالي النصف الآخير من القرن الثالث قبل الميلاد. فإن صح ذلك، كان واضعو النص التوراتي أدباء إغريق، لا أكثر ولا أقل! س: كيف يرى المسلمون ما أضمره اليهود العرب من عداء للإسلام؟

ج: لقد كان القرن السابع الميلادي قرن الرسالة المحمدية، فيه نزلت وفيه عمّت وانتشرت. حينها كانت العلاقات بين اليهود والعرب عريقة ضاربة في القدم. فقد كان بجزيرة العرب يهودٌ قبل مجيء الإسلام بعدة قرون على الأقل، حيث إن سلالة تُبَّع الحِميَرية أدخلت الدين اليهودي إلى اليمن. وقبلها بزمن بعيد كانت قبائل يهودية عديدة تعيش في يثرب، كقبائل بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع.

س: أكانوا أهل حضارة أم كانوا يعيشون عيشة البدو الرحل؟

ج: يقول مؤرخونا إنهم جاؤوا بمعارف زراعية متطورة أخذوها عن الأنباط. كما أن ما تحفل به الحكايات المروية عن بلقيس ملكة سبأ وعلاقتها بسيدنا سليمان من أوصاف عن المعمار وأنماط العيش ينم عن مستوى من الحضارة رفيع. وذو نواس، أحد ملوك جنوب الجزيرة، كان يهوديا. وهو الذي أحرق نصارى النجران.

وقد ترك الوجود اليهودي في جنوب جزيرة العرب آثارا أدبية كأشعار كعب بن الأشرف والسموأل بن عاديا، صاحب حصن الأبلق قرب تيماء، غير أن ذلك الوجود أذكى من جانب آخر نار الخلاف بين الأحباش أحلاف الغساسنة الذين كانت تدعمهم بيزنطة، وبين اللخميين الموالين لفارس. س: لعل في هذا ما يولي اليهودية دورا في الإعداد للثورة الروحية التي شكَّلها الإسلام؟

ج: دعوا مسألة التأثيرات وما إليها لخيال المولعين بنظريات النسبية التاريخية. أما الحقيقة، فإنها هاته المرة بسيطة في منتهى البساطة، وتتلخص في النبوة. فقد أخبرنا عضو أكاديمية مملكتنا «حاييم الزعفراني» أن أحد كبار علماء اليهودية، واسمه «شمعون بن يوهاي» (عاش خلال القرن الثاني للميلاد) قد تنبأ بالرسالة المحمدية والفتح العربي. فقد لجأ ذلك الرجل إلى مغارة منعزلة اختبأ فيها بعيدا عن أعين قيصر ملك إيدوم، حيث بقي طوال أربعين يوما وأربعين ليلة يصلي حتى استجيب لدعائه، فأميطَ عنه حجاب الغيب وبدت له مملكة إسماعيل، وقال له «ميتاترون» إن هاته المملكة هي التي ستخلص اليهود من بطش الأدوميين، وأن مؤسسها سيكون نبيا يتبع التعاليم الإلهية، وأنه سيفتح الأرض ويخلص شعب إسرائيل ويقيم ما انقضَّ من جدران معبد داوود والمعبد الآخر، إلى ما هنالك. وليست هاته هي الشهادة الوحيدة في هذا الشأن. فزوهار ينقل لنا شهادة أخرى مؤداها أن سفر الخروج، إذ يذكر إسماعيل، يقول عنه إنه «سيكون ماهرا في كل شيء»، وأن الرب يريد أن يمكِّن لبني إسماعيل في الأرض. وقد كان اليهود القدامى يرون في أبناء إسماعيل إخوة لهم. فالتوراة تنبأت بما كان ينتظر هؤلاء البدو الرحل من مستقبل زاهر ومن مجد غير مسبوق، وهي تحفل بالإشارات الدالة على ذلك. لكن مَن يذكر اليوم شيئا من ذلك؟ على أن هذا لا يمنع من أن الموروث المشترك يمكنه أن يدعم آمالنا في تحقيق الوئام ما بين أحفاد إبراهيم جميعا.

مصادر التاريخ س: ألا يتعلق الأمر هنا بمجرد أسطورة من قبيل القيامة ورجوع المسيح وما إلى ذلك؟

ج: بل يتعلق الأمر بنمط من التفكير، أو قل بخيال خلاق. وذاك فيه خير للإنسانية، لأن في رسم تصور عن مدينة فاضلة يُدعى الناس إلى العيش فيها ما هو أفيد لهم وأنفع من كثير من التيه في خضم ألغاز تتكاثر وتتوالد دون طائل. فالإسلام دعوةٌ إلى تدبر الرسالة وتدبر الكون، وهو ما لم يعد سهل الفهم في عالم تسود فيه الفوضى والخلط. فقد كانت الرسالة بالنسبة إلى معاصريها دعوة إلى الإيمان والأمل. ويوم انهزمت بيزنطة أمام الفرس، هلل لهزيمتها المسيحيون اليعاقبة ممن كانوا يعانون من اضطهاد إخوانهم الأرثودوكس، في حين حزن لها المسلمون. غير أن الله تعالى عزيزٌ ذو انتقام، يعاقب من تسول له أن يظلم الآخرين تعصبا لمذهبه وعقيدته، وقد اختار أداةً لنقمته أبناءَ إسماعيل وجعل على أيديهم خلاص فئة من المسيحيين من اضطهاد إخوانهم في العقيدة.

س: إذن فالله يعاقب من يتصف بانعدام التسامح يا صاحب الجلالة؟

ج: إن بعض المفكرين المسلمين يرون أن الله يعاقب القرية الظالمة على ظلمها ولو كانت مؤمنة، ويجزي القرية العادلة بعدلها ولو كانت كافرة. ولنتذكر وضعية المؤمنين عشية ظهور الإسلام. فقد كانت النصرانية مهيمنة في الغرب حيث كان اليهود يشكلون أقلية. وخلال حكم «جوستنيان»، كانت كلمة «يهودي» تعني كذلك من يقول بطبيعة المسيح البشرية. ولا يجب أن نغفل ما أبان عنه بعض القادة المسيحيين من تعصب أعمى ضد اليهود، كما هو شأن القائد «بيليزير» الذي لم يكن يتردد في إصدار القوانين المجحفة في حقهم. أما «داغوبير»، فقد دفعته القلاقل التي أثارها اليهود أيام حكم السلالة الميروفية إلى التفكير في استئصال الديانة الموسوية من البلاد. ونجد الشيء نفسه في إسبانيا أيام القوط مع ما عرف بالقوانين القوطية. أما في الشرق، فقد جاءت ثورة القرن الخامس لتضع حدا للاستقرار الذي عرفه اليهود حتى ساعتذاك. لكن الوضع في جزيرة العرب كان مختلفا تماما. فقد كان اليهود يشكلون الأغلبية في المدينة، وكانت سلالةٌ يهودية تحكم اليمن.

س: يقول «رينان» إن الجزيرة كانت متشبعة بروح اليهودية، وأنه لولا الإسلام لدانت كلها بذلك الدين. ما قولكم في ذلك؟

ج: لطالما أتى «رينان» بالمتناقضات. أما الحسم في مدى الوجود والتأثير اليهودي في الجزيرة، فمسألةٌ تستدعي رأي جميع الخبراء من أهل الشأن. غير أن الأمر ليس من شأن العلم ولا غيره، إذ حسم فيه الوحي الذي نزل على سيدنا محمد نبي الله ورسوله، وحيا شاملا جامعا ـ كما يقول ابن عربي ـ لِما أتى بين يديه، وخاتمةً للرسالات.ورغم ذلك، فإنه (ص) لم يتردد في دعوة اليهود إلى المحاورة. والقرآن يوليهم اعتبارا ويخاطب علماءهم قائلا (26/197): «أوَلم يكن لهم آيةً أن يعلمه علماء بني إسرائيل؟». س: لنعد إلى المسألة الأساس، مسألة التسامح مع اليهود ومع المسيحيين. أحقيقة هي أم وهم؟

ج: بل حقيقة. لكن الطبيعة البشرية تجعل مخالفة الشرائع أمرا واردا غيرَ نادر الوقوع. بيد أن التعايش كان عموما هو القاعدة السائدة في ظل الإسلام، تعايشا طبعَته روح الصداقة والوئام غالب الأحيان. وإن شئتم دليلا على ذلك، فلكم خير برهانٍ في ما حققه اليهود من كسب تاريخي، أو إن شئتم، في ما لم يحققه اليهود من كسب تاريخي إلا في ظل الإسلام. س: هل من مثال على ذلك؟

ج: إن المؤرخين جميعهم يتفقون على أن مصادر التاريخ اليهودي قبل الإسلام كلها مصادر غير مباشرة. أما بعد مجيء الإسلام، فإن الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية اليهودية شهدت ازدهارا لم يسبق له مثيل. فقد فتح الإسلام أمام الشعوب جميعها أوسع مجال للتواصل قبل اكتشاف أمريكا، كما أنه ـ مثله في ذلك مثل الحضارات الأصيلة جميعا ـ أزاح الحواجز ما بين الشعوب، وأتاح للعبقرية البشرية فرصةً للتفتق والإبداع. ثم إنه كان وراء ظهور مهنة الصِّرافة وعلم الاقتصاد، بتمكينه اليهود من ممارسة إدارة التجارة والمال.

س: لقد عاشت أقليات عديدة في ظل الحكم الإسلامي الشاسع. ترى ماذا كان موقف الإسلام منها؟

ج: إن مسألة «الأقليات» أمر قديم، غير أنه لا وجود له في الإسلام. ذاك التسامح هو ما لم يدركه مبدأ الوحدة الدينية داخل الدولة الواحدة. ففي ظل المسيحية مثلا، ارتطم مبدأ تعدد الديانات بقاعدة «كما تدين تدان» التي كانت تكرس بشكل من الأشكال شعور الرفض حيال الأقليات، وتتيح بالتالي المواقف المتعصبة إزاءها. والنتيجة أن العصبية شعور جديد ولّدته الإصلاحات الدينية التي غالبا ما كانت ذات منحى متعصب، رغم ما يدعيه يعض المؤرخين السذَّج وبعض الدعاة الإيديولوجيين من عكس ذلك. فقد كان «لوثر» ـ بغض النظر عن «كالفين» الأكثر تشددا ـ هو من أعطى الحق للأمير الدنيوي بحماية رعاياه من الفُرقة التي قد يبثها بينهم مبشرون يدعون لغير الدين الرسمي. أي أنه لا يُسمح بالدعوة إلى دينٍ غيرِ دينِ الدولة. أفلا ترون في ذلك سلفا لفكرة الحزب الوحيد؟! فما القول في أن ذاك كان هو المبدأ الأساس الذي انبنت عليه معاهدة السلام الديني الموقعة بأوغسبورغ عام 1555! أما في الإسلام، فإن قاعدة «كما تدين تدان» لا وجود لها، لأن الإسلام لا يرفض غيره من الأديان، وذاك ما سمح بإقامة قانون عمومي عادل. فالمؤمنون (مسيحيين ويهودا) كانوا يتمتعون بوضعية الحماية المعروفة في الإسلام بالذمة. والذمة عهد يضمن الأمان. وإن شئنا الدقة فهو عهد يتحمل بموجبه الحكم القائم مسؤولية حماية المؤمنين الذين يدينون بغير دينه. وهو قانون وشرع يضمن حياة هؤلاء المؤمنين وأمنهم على أساس معاهدة يصبحون بمقتضاها «معاهَدين». ولكم أن تقارنوا ذلك بحماية البابا المعروفة تاريخيا ليتبين لكم الفرق.

س: هل المعاهَد مواطن تام المواطنة كامل الحقوق؟

ج: إن «العهد» مقدس أكثر من «الكلمة» التي يوليها الساميون قداسة وحرمة. فهو أكثر الأشياء قدسية، بل إن له قوة القانون وحرمته. وقد أنَّب قاضٍ من القرن الثامن الميلادي حاكما مسلما أخذ المسيحيين جميعا بذنب طائفة منهم، فقال له: «كيف تأخذ جَمْعهم بذنب بعضهم وقد قال الله تعالى (6/164): «ولا تزر وازرة وزر آخرى»، وقال نبيه عليه السلام: «من أهان ذميا أو حمَّله ما لا يطيق كنت خصمه يوم القيامة»؟!». ولم يكن ذلك القاضي هو الوحيد الذي وقف في وجه والٍ أو حاكم اضطهد الذميين أو ظلمهم.

س: وما موقف الإسلام اليوم من مسألة الأقليات؟

ج: إنها مسألة يجب أن ينظر فيها حالةً حالة. فهناك أقليات مسلمة في بلاد غير إسلامية كما أن هناك أقليات غير مسلمة في بعض بلاد الإسلام.

س: فلنبدأ بالأقليات التي تعيش في بلادٍ أغلبُ أهلها مسلمون.

ج: لا وجود لهذه المشكلة في المغرب، فنحن نحفظ حقوق كل أجنبي يقيم بيننا. وكما قلت سابقا، فإن القانون وحده هو الذي يعاقب على كل تصرف يمس بالنظام العام الضامنِ أمنَ الجميع وسلامتَهم. أما على المستوى الدولي، فإن المغرب لم يتردد يوما في الانحياز إلى جانب الحق والعدل. ورغم أنه لا وجود لأقليات عندنا، فإن بلدنا التزم بكل الاتفاقيات الدولية التي تنظم الوسائل القانونية الكفيلة بضمان حقوق الأقليات. وقد أدى تدويل هذه المسألة، منذ نهاية القرن التاسع عشر، إلى إدراجها ضمن إعلان حقوق الإنسان. ولا غرو، فكل إطار قانوني هو إنساني بالأساس. والفصل الثاني من معاهدة مناهضة القتل الجماعي ينص بوضوح على تجريم كل «عمل يُرتكب بنيَّة القضاء جزئيا أو كليا على طائفة يجمعها الوطن أو العرق أو الجنس أو الدين». فالإجراءات العرفية القديمة الصائبة في هذا المجال تحولت بسهولة ويسر إلى إجراءات قضائية حديثة، والقانون يتطور رويدا نحو فكرة الشرعية الدولية. ورغم أن هاته الفكرة لا تزال اليوم فكرة مثالية لم تتحقق بعد واقعا، فإننا هنا نظل متشبثين بها مؤمنين بإمكان تحقُّقها.

س: ألا ترون أنه غالبا ما تتم التضحية بالأقليات باسم التوازنات الدولية؟

ج: إن مشكل «الأقليات» كما يُطرح اليوم، مشكل عويص شائك. وكلما داخلته السياسة كان أكثر استعصاء على الحل. ويبقى التعقل والحوار أهم أسلحة بأيدينا نواجه بها مثل هاته المواقف. وليحفظنا الله من عواقب التردد والخوف غير المبرر. وقد اتضح أن ما ورثناه من مقومات الدولة ـ لغة وثقافة ـ عن القرن الماضي هو مثار للمشاكل، على عكس القاعدة الأعم المبنية على التوافق حول القيم الأساسية وحول قواعد التعامل داخل الدولة. فالديمقراطية تحل من المشاكل ما لا يحله العصريون بالسياسة الصرفة وحدها.

اليهود المغاربة س: هل في كون المغرب إمبراطورية ما يفسر التعدد المغربي؟

ج: دون شك. لكن شريطة ألا نرى في كلمة «إمبراطورية» المعنى الذي كان يحمله الحكم الروماني. فالسلطة عندنا لا يحددها المجال الترابي، بل القانون. قانون يسمو فوق الجنسيات. وهذا التصور المستوحى من الإسلام تصورٌ مناسب لروح العصر، نظرا لما يشهده العالم اليوم من توجه نحو التعاون والتشارك، إن على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي. ولا يعني ذلك وجوب اتخاذ فكرة الإمبراطورية مثالا يحتذى، بل الحفاظ على بعضٍ من مقوماتها التي لا يزال مفهوم الدولة الأمة عاجزا عن استيعابها. وقد بقيت هاته الحقيقة المغربية قائمة لا يجادل فيها أحد، بفضل صفة أمير المؤمنين التي يتمتع بها ملك البلاد، والتي تعطي الحُكمَ صفةً دينية تعزز من سلطته الدنيوية. وملك المغرب هو الوحيد الذي يتمتع بهاته السلطة المزدوجة، وإنْ يكن ذلك تجاه شعبه وحده. ذاك ما جعل حبل السيادة عندنا لا ينقطع على مر الزمن. وكما أكد ذلك قرار لمحكمة النقض (الفرنسية) صادر بتاريخ 13 أبريل 1924، فإن تلك السيادة استمرت قائمة، لا بفعل القانون وحده، بل وكذلك لكون معاهدة الحماية نفسها قد أقرتها واعترفت بها. وقد كان في ذلك الاستمرار ضمانٌ وحرز للتعددية المغربية.

س: أيؤاخذ الإسلام بني إسرائيل على كونهم يعتقدون أنهم الأفضلون؟ وهل ينتج عن ذلك ما يدعو إلى معاملة اليهود معاملة خاصة؟

ج: في حدود علمي، فإن هناك قلة قليلة من المسيحيين ـ من بينهم «لويس ماسينيون» مثلا ـ يعتبرون أن رسالة الإسلام الإيجابية تتمثل في التذكير بأن عيسى بن مريم هو النبي المنتظر، عكس ما يعتقده اليهود من أنه سيُبعث منهم. أما اليهود المغاربة، فلم يشعروا يوما ولن يشعروا بما يضيرهم في وطنهم. وقد كان والدنا المغفور له لا يفتأ يردد: «إن الأسرة المغربية كلٌّ لا يتجزأ ووحدة مقدسة. فاليهود المغاربة، حتى وإن أقاموا في بلاد بعيدة، يظلون من جملة رعايانا، ولهم علينا حق الرعاية والحماية». لكن، وفي الوقت الذي نجد فيه الحوار بين المسلمين والمسيحيين غنيا بأدبياته، فإنه ما بين المسلمين واليهود لم يرق بعد إلى هذا المستوى من الغنى الفكري.

س: لماذا؟

ج: لا شك أن للمشاكل السياسية التي يعيشها الشرق الأوسط دخلا في ذلك.

س: ترى هل يكون مثل هذا الحوار مفيدا؟

ج: بكل تأكيد. وقد دعا «مارتين بوبر» إلى حوار بين اليهود والمسلمين. فالقدس مدينة مقدسة عند أهل الديانات التوحيدية الثلاث، وواجب ورثة العهد الإلهي أن يعملوا جميعا على تحويل شبح المأساة الحالية إلى أمل في سلام عادل.