فلسطينيو الداخل قرروا إيصال الانتفاضة إلى مؤتمر القمة العربي وتوظيف البعد الإسلامي من أجل القدس

TT

كأن ما «اتفق» عليه في شرم الشيخ خرج الى العلن خجولا، فالرئيس الاميركي بيل كلينتون مستعجل وقلق في آن، يريد ان ينقذ ما «استثمره» خلال ثماني سنوات من حكمه وان يعود للمشاركة في مأتم بحارة المدمرة كول الذين سقطوا بسبب ما يحدث من اصطدامات بين الفلسطينيين والاسرائيليين. خمسة اجتماعات مع رئيس وزراء اسرائيل ايهود باراك وخمسة اجتماعات اخرى مع رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات في «قمة» شرم الشيخ. لكن، الم تُعقد قمة في شرم الشيخ قبل سنة وبضعة اشهر وخرج منها اتفاق يومذاك ولم يطبق؟ كان رئيس الحكومة الاسرائيلية يومها بنيامين نتنياهو، وقيل انه يميني متطرف لا يريد سلاما مع الفلسطينيين، ثم جاء باراك ورأينا اطفالا فلسطينيين يموتون برصاص الجيش الاسرائيلي، قال كلينتون ان مقتل محمد الدرة هزه، لكنه استنكر، واستنكرنا ايضا، مقتل الجنديين الاسرائيليين اللذين قالت اسرائيل «ان السيارة التي كانت تقلهما ورفيقين آخرين ضلت طريقها» في رام الله، واستنكرنا ان ترمى بجثة احدهما ويمثل بها في الشارع، لكن، استنكرنا ولم يستنكر كلينتون رد باراك بالقصف عبر طائرات الهليكوبتر والدبابات الاسرائيلية المناطق الفلسطينية.

لقد كتب توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» في احد مقالاته: «لو ان عرفات امر الفلسطينيين بان يرحبوا بارييل شارون (الذي فجر ما كان في حاجة الى عود ثقاب لينفجر) عندما زار ساحة المسجد الاقصى، لكان احرجه واحرج اسرائيل» ولم يكتب فريدمان لو ان باراك ترك العالم وتركنا نتابع ردة فعل الفلسطينيين الغاضبين عندما قتلوا الجنديين الاسرائيليين، ولم يزايد على شارون في اصدار اوامره الى جيشه ليقصف ويدمر ويقتل، لكان اشعر العالم كله بالخجل. الم يقل باراك ان بلاده هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط، وانه وشعبه المتحضرون الوحيدون وسط بحر من البرابرة والهمجيين، اي نحن العرب، فلماذا تصرف اسوأ منا ولم يسيطر عليه المنطق والحضارة والمدنية؟ قمة شرم الشيخ السابقة كانت لنتنياهو وقمة شرم الشيخ الاخيرة جاءت لباراك الذي ما ان عاد منها حتى توعد وانذر الفلسطينيين مدة 48 ساعة حتى يتوقفوا عن العنف قبل.. قبل ماذا؟ قبل ان تغلب عليه الحضارة والرقي ويلجأ الى القصف والتدمير. وعشية عودته وقف ضابط اسرائيلي ليقول لمراسل «بي بي سي» ان الاوامر التي تلقاها هي الآتية: التزام الهدوء واحتواء الغضب، لكن اذا ما صوب احد الفلسطينيين واطلق النار حتى لو لم يصب احدا، فعلى الجنود ان يصوبوا ويطلقوا النار و.. يقتلوا.

اوامر حضارية جدا، لكن اذا كانت هذه هي الحضارة التي تريد اسرائيل نشرها لدينا، فاننا لا نريدها، انما، لم يقل لنا الرئيس الاميركي رأيه بهذه الحضارة وهو الذي رفض المشاركة في حرب فيتنام لانه رفض حضارة بلاده آنذاك؟ ثم الا تذكره هذه الاحداث بما جرى لبلاده وجنودها في فيتنام؟ لقد لجأت الادارات الاميركية آنذاك الى سياسة الارض المحروقة، ومع هذا، من تلك الارض المحروقة ظل الفيتناميون يقاتلون من اجل الحرية واستحقوها، وها هو كلينتون يستعد لزيارتها في شهر كانون الاول (ديسمبر) المقبل. لم يذهب اليها ليحارب اهلها ولكنه سيزورها لتشجيع اتفاقات تجارية وصفقات اقتصادية ما بين ابنائها اليوم والشركات الاميركية.

على كل، ما رأي اصحاب القضية، فلسطينيي الداخل، بما جرى في شرم الشيخ؟

الدكتور مهدي عبد الهادي رئيس الاكاديمية الفلسطينية للابحاث، قال ان ما توصل اليه الرئيس كلينتون هو اعلان اميركي، او بالاحرى تصريح اميركي واعلان نيات على امل ان يعلن الطرفان اتفاقهما حولها، لم تصدر وثيقة موقعة او مكتوبة بل اعلان اميركي، جاء بعده الطرف الاسرائيلي ليقول ان هذا الاعلان الاميركي يملك الثقل القانوني للاتفاقية، اذ صرح وزير الخارجية الاسرائيلي بالوكالة شلومو بن عامي ان التصريح الاميركي له قوة الاتفاقية الرسمية بالنسبة الى الاسرائيليين، ويلبي كافة المطالب الاسرائيلية، في حين لم يعلن الطرف الفلسطيني لا في بيان مكتوب ولا في خطاب سياسي، موافقته او معارضته للاعلان الاميركي. ويضيف عبد الهادي ان ما بقي الآن هو اهم مما اعلن، اي الترتيبات الامنية وقدرة الطرفين على تطبيقها على ارض الواقع.

ويقول عبد الهادي، ان باراك يعود لبيع هذا الاعلان الاميركي للرأي العام الاسرائيلي وقد يفشل في اقناع شارون في الموافقة عليه وبالتالي الانضمام الى حكومة العسكر. واسأل عبد الهادي، الا يلغي الاعلان الاميركي الحكومة العسكرية او الحكومة الوطنية الاسرائيلية؟ ويقول: حتى الآن ليس معروفا، لان هدف باراك هو البقاء في الحكم، خصوصا ان شارون ابدى امتعاضه من الاعلان وعدم موافقته عليه، لذلك يعود باراك الآن ليواجه معركة داخلية في المعسكر الاسرائيلي حول بقائه في السلطة بالشكل الحالي: حكومة ضعيفة وغياب الكنيست او محاولته لتأليف حكومة عسكرية مع شارون. لكن، هل سينعكس هذا على القوة العسكرية التي تمارس ضد الفلسطينيين؟

يجيب عبد الهادي: ان عقلية الجنرال العسكري باراك لم تتغير في شرم الشيخ، اذ عاد يكرر شروطه وتهديداته ومنح السلطة الفلسطينية 48 ساعة لايقاف المواجهات.

واسأله: ربما لان «الاعلان الاميركي» يقول ان الانسحاب الاسرائيلي يتم بعد 48 ساعة من وقف العنف؟ يجيب عبد الهادي: لهذا جاء تصريح باراك ليقول انه يعطي السلطة الفسلطينية 48 ساعة لايقاف الاصطدامات التي ادعى انها عنف. ويضيف: في البيت الفلسطيني هناك خطان واضحان: خط الشارع الفلسطيني الذي يقوده التيار العام لحركة فتح وتحالفه مع بقية القوى والتنظيمات، بما فيها حماس والجهاد الاسلامي، وفيه اعلان صريح يعكس الخطاب السياسي في الشارع الفلسطيني وهو استمرار الانتفاضة حتى الاستقلال، وهناك تأييد لهذا الكلام.

لكن، ماذا يعني الدكتور عبد الهادي بانتفاضة الاستقلال؟ يجيب: ان تأتي ولادة الدولة الفلسطينية في البيت العربي في مؤتمر القمة الذي من المقرر ان يعقد يوم السبت المقبل 21 تشرين الاول (اكتوبر) الجاري، بحيث يعلن القادة العرب عن ولادة الدولة الفلسطينية بحدود 1967 وعاصمتها القدس، وتصبح مسؤولية العرب حماية هذه الدولة والتعامل مع اسرائيل من مستوى دولة مقابل دولة وليس حكما ذاتيا او تحت الاحتلال.

ويقول: لا توجد ضمانات او اتفاقيات او شروط، فكل ما لدينا مناشدة ومطالبة وصرخة انتفاضة وعودة الى البيت العربي واعلان الدولة، تماما كما أُعلنت منظمة التحرير عام 1965 في مؤتمر القمة ومُنحت الشرعية في مؤتمر القمة عام 1974. الآن مسؤولية العرب التعامل مع الدولة الفلسطينية من منطلق دولة مقابل دولة.

ويؤكد الدكتور عبد الهادي ان هذه الانتفاضة سوف تستمر ولن تتوقف وهي انتفاضة المجتمع الفلسطيني المدني، انتفاضة الداخل وليس انتفاضة الخارج العائد، او العائد المقيم.

ويواصل: اضافة الى هذا الخط، هناك خط مؤسسات السلطة المعنية جدا بتهدئة الاوضاع حتى لا تفقد السيطرة على الشارع الفلسطيني، لان احدا لا يستطيع ان يسيطر على مشاعر الناس الذين يريدون الاستشهاد. ويضيف ان السلطة ومؤسساتها معنية في المحافظة على سيطرتها وقدرتها على حكم الارض المحتلة في هذه المرحلة وانجاز ما يمكن انجازه ضمن مسار اتفاق السلام الموقع مع اسرائيل. انها معادلة صعبة ولكنها ستوحد الشارع الفلسطيني ومؤسسات السلطة بسبب عقلية الحكم العسكري الاسرائيلي وعنجهيته، فباراك لم يتغير بل سيكون العنصر الذي يفرض وحدة الشعب الفلسطيني ومقاومته.

لذلك، يقول الدكتور مهدي عبد الهادي، ان ما اعلن في شرم الشيخ هو ورقة فارغة وتصريح اميركي خالي المضمون، انه تصريح عن نيات اميركية لا تطبيق عمليا لها على ارض الواقع لان الثقة مفقودة بين الجانب الفلسطيني والجانب الاسرائيلي. لقد عدنا الى قاموس العنصرية (عرب ويهود) وعدنا الى قاموس الخوف الذي قد يستمر في فصل العلاقة الفلسطينية ـ الاسرائيلية، هناك خوف من قبل الطرفين. ويضيف: لو رأيتِ اليوم (الثلاثاء) شوارع القدس والمدن الاسرائيلية، فهي فارغة والناس خائفون من الخروج.

لكن، اسأل الدكتور عبد الهادي: لماذا لم ترفض السلطة هذا الاعلان اثناء وجودها في شرم الشيخ؟ ويجيب: ان السلطة لم تعلن لا موافقتها ولا معارضتها، ولم يخرج تصريح سياسي من عرفات، مما يعني انه ترك الباب مفتوحا لكل الاحتمالات ولاختبار النيات الاسرائيلية في سحب قواتها.

لكن، الى اين ستصلون؟ يجيب الدكتور عبد الهادي: امامنا ثلاثة سيناريوهات، الاول: هو حكومة عسكرية ائتلافية بين باراك وشارون لفرض مزيد من السيطرة والقمع وانهاء دور عرفات. ولقد كانت تصريحات باراك واضحة عن ان عرفات لم يعد شريكا للسلام وانه يبحث عن قيادة بديلة لعرفات. وباراك حتى يبقى في الحكم بحاجة الى تحالف مع الليكود، ومن مصلحة شارون قمع الفلسطينيين وممارسة عقلية الارهابي المعروف بها، وبالتالي هناك عدم استسلام فلسطيني.

هذا السيناريو يجر الى السيناريو الثاني، وهو انقياد الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي الى «لبننة» الصراع، بمعنى ان هناك مستوطنين مسلحين يشنون هجوما على القرى الفلسطينية ويقومون بخطف الناس، تقابلهم مقاومة من شعب فلسطيني ايضا مسلح. ولهذا يسيطر مناخ خوف وقتل. ان الطرفين سيُقادان بالسلاسل الى اللبننة اذا شُكلت حكومة العسكر من شارون وباراك.

السيناريو الثالث: وهو توظيف البعد الاسلامي من اجل القدس وفي القدس، لاحتواء هذا المسار في تفعيل مؤتمر القمة العربي لاحتضان الفلسطينيين في اعلان الدولة وعرض التعامل مع اسرائيل من منطلق الدولة.

ويوضح الدكتور عبد الهادي، انه لا يوجد عنصر يجمّع كل هذه الامور، فالسيناريوهات الثلاثة اما ان تكون متتالية او متداخلة لكنها شبه حتمية امام غياب ارادة سياسية لدى الطرف الاسرائيلي في الاقتناع بالحقوق الفلسطينية والانسحاب من الاراضي المحتلة. ويشدد على ضرورة ان تتبنى القمة العربية مسألة اعلان الدولة، فعندها «يختلف السيناريو المطروح، خصوصا عندما يعترف العالم العربي بجواز السفر الفلسطيني ويطالب اوروبا ان تتعامل معه، ويتم تفعيل السيادة على الارض (...) والغاء كل الشروط التي فرضتها اسرائيل، وتمارس الدولة المعترف بها حق العودة ويتم فتح الحدود مع الاردن ومصر، وتصبح مسؤولية عربية ـ فلسطينية وتحديا ومجابهة لاسرائيل بشكل مشترك».

ويستبعد الدكتور عبد الهادي وقوع حرب عربية ـ اسرائيلية، فالمعادلة اختلفت، والقيادة وكذلك المصالح، «لن يدخل جيش عربي الى فلسطين لا لتحريرها او لانقاذ الفلسطينيين عسكريا»، ويضيف بان الفلسطينيين لن يحلموا بان يهب الشارع العربي والاسلامي كما هب الآن، ولن ينتظروا مرة اخرى لهذا التضامن ان يتفاعل من جديد، ويقول: «انها فرصة العمر ولن نضيّعها، وبالتالي هناك اصرار على التضحية والمزيد منها من اجل الوصول الى الاستقلال»، ويضيف: «ان سبب ذلك بسيط جدا وهو عدم وجود ادارة اميركية حاليا قادرة على ان تضغط او تؤثر، ووجود عنجهية اسرائيلية قصيرة النظر وضعيفة امام تحديات العصر، وكما ايقظنا اسرائيل في الانتفاضة الاولى عام 1987 للاعتراف بالفلسطينيين سنوقظها مرة اخرى كي تعترف بالدولة الفلسطينية المستقلة».