حديث في اللغة

TT

حاولت هذا الأسبوع أن أنفلت من إكراهات السياسة وأنفِّس عن الخاطر، من هول المخاطر، لأتحدث عن اللغة. لكن وجدتُني بعد أن خططت لهذا المقال في صميم السياسة التي يستحيل الانفلات منها والتي قال عنها فيلسوف روسي: «عندنا حينما ما تنبت زهرة أو تسقط من شجرة ورقة فذلك عمل سياسي».

اللغة التي سأتحدث عن مفرداتها ومصطلحاتها هي لغة المفاوضات العربية الإسرائيلية الأميريكية التي أغناها الطرفان الأخيران برصيد زاخر من المصطلحات التي تُعَدُّ ابتداعاً فريداً في اللغة، حيث لا يكون فيها للألفاظ أي معنى، أو يكون لها أكثر من معنى، أو تدل على نقيض ما يبدو ظاهراً منها، أو تعتورها دَلالات متباينة متعارضة على حسب السياق زماناً ومكاناً. وسنتحدث عن هذه المفردات تباعاً لنعرف ما يراد منها على لسان المفاوضَيْن الإسرائيلي والأميريكي.

1 ـ عملية السلام السلام يعني حالة نهاية الحرب. والمتحاربون حين يقررون إيقاف الحرب يصبحون في حالة سلام. وليس من الضروري أو الواجب أن يرتبطوا بعلاقات أو أن يحتاجوا إلى تطبيع، لأن العودة إلى السلام عودة إلى الطبيعة فهو القاعدة الطبيعية والحرب استثناء وشذوذ.

السلام لا يحتاج إلى عملية لـ «فَبْرَكته» وقدِّه على «مقاس» طرف واحد هو الطرف المحتل. وعملية السلام تعني أن من يريد فرضها يصنع سلاماً يستوحي أسسه من خياله أو هواه، فيركِّب أجزاءها ويحذف منها ما يرى حذفه ويعوضه بقطع غيار يزرعها في العملية المصطنعة، أو يريد أن يحول العملية إلى طبخة يُنضجها على نار حامية أو دافئة، يُعِدُّها طبقاً لما يشتهي ليحمل على التهامها من يجلسون على مائدة السلام طوعاً أو كرهاً، بشهية أو بدونها، سواء كانت قابلة للهضم أو مضرة بالأمعاء، سواء كان الذوق يستسيغها أو يمجُّها ويعافها.

2 ـ القضايا الشائكة أطلِق هذا المصطلح على قضايا تفرعت عن عملية السلام الذي لم يعد يعني في لغة المفاوضَيْن الإسرائيلي والأميريكي رفع الاحتلال كاملاً غير منقوص ولا مشروط عن الأراضي الفلسطينية ومنها القدس. وهو السلام الذي أقرته منظمة الأمم المتحدة في قرارات مجلس الأمن. وقد أريد فصل هذه القضايا عن عملية السلام واستبعادها بدعوى أنها قضايا مستعصية عن الحل. وتجزئة قضية السلام نفسها إلى جملة قضايا عملية تدليس، إذ لا توجد للسلام إلا قضية واحدة هي قضية استيلاء إسرائيل بالحرب والقوة والعدوان على أرض فلسطين. وحلها الدولي لم يفككها إلى قضايا ولم يصنفها بين ما طريقه شائك، أو محفوف بالأشواك، وإنما إسرائيل هي التي وضعت الأشواك على الطريق لتُبِقي على وضع احتلالها كما هو.

إن جميع هذه القضايا التي أطلق عليه الطرفان المعنيان نعت الشائكة طريقها معبَّد سالك. والحل الدولي صريح في رفع الأشواك عن طريق رفع الاحتلال عن جميع أراضي فلسطين، وعودة اللاجئين أو تعويضهم، والرجوع إلى حدود ما قبل رابع يونيه 1967.

3 ـ المستوطنات إن استعمال لفظ استوطن يعني البحث عن موطن وسكن. وهو غير الاغتصاب الاستعماري الذي يقوم به الغرباء الذين جاءوا إلى فلسطين من مختلف أقطار العالم وحلوا محل الفلسطينيين في ديارهم وأراضيهم. والتعبير الملائم لما قام بها هؤلاء هو المستعمرات. والمتلبسون بجريمة الغصب هذه هم مستعمِرون وليسوا مستوطنين. علماً بأن بعض أشكال الاستعمار البائد الذي لم يبق منه اليوم إلا استعمار إسرائيل لفلسطين يطلق عليه الاستعمار الاستيطاني. وفي اللغات الأجنبية يطلق على المستوطنات الإسرائيلية اسم المستعمرات Colonies. كما لا ننسى انه سبق لمنظمة الأمم المتحدة أن صادقت على قرار أن الصهيونية أخت الاستعمار.

وفي الأحداث الجارية بفلسطين تبين أن هؤلاء المغتصبين ليسوا سكاناً مدنيين، بل هم ميليشيات مسلحة رديفة للجيش الإسرائيلي اغتنمت إسرائيل حقبة المفاوضات لزرعهم في الأراضي الفلسطينية لتطويق الفلسطينيين حتى لا يُفلتوا من رصاصها.

4 ـ تنازلات إسرائيل التنازل يعني الشروع في النزول إلى موقع المخاطب أو المتحاور والابتعاد عن التعالي، وقبول إعطاء طالب الحق حقه أو منحه ما هو أكثر، لكن تنازلات إسرائيل لا تعني أكثر من إبداء إسرائيل استعداداً لفتح النقاش المبدئي حول ما تسميه لاءاتها أو خطوطها الحمراء لتستبعد في النهاية أن تتخلى عنها وتعتبرها مُقصاة من تسوية المشكل. ومن حصيلة ما انتهت إليه المفاوضات في كامب ديفيد الثانية يتبين أن إسرائيل لم تعط أي تنازل وأنها أوغلت في التشددات والتصلبات التي سمتها تنازلات.

5 ـ مرحلة الفرصة الأخيرة والقرارات الصعبة هذه العبارات تعني تهديد المفاوض الفلسطيني بأنه أمام خيارين لا ثالث لهما: أن يقبل بصفة نهائية ما تَصدَّق به عليه الطرفان الإسرائيلي والأميريكي، أو أن يخرج صفر اليدين يضيع الفرصة التي تصير إلى غُصة. وليلا ينتهي إلى هذا المصير عليه أن يضغط على نفسه ويتحمل القرار، بـ (المفرد لا الجمع): قرار الاستسلام للمحتل الغاصب وإضفائه بهذا القبول الشرعية على سلام الغبن المغشوش الذي يُقبر إلى غير رجعة سلام الأمم المتحدة والشرعية الدولية.

6 ـ السلطة الوطنية الفلسطينية بدل الحكومة الفلسطينية القصد من استعمال هذا التعبير إحاطة طبيعة سلطة فلسطين على أراضي الحكم الذاتي بغشاء الغموض والالتباس. ففي الحكم الذاتي ـ كما هو معروف في السياسة والقانون ـ تقوم على رأس الجهة المتمتعة بالحكم الذاتي حكومة بما يحتضنه هذا التعبير من دلالات يقصر عنها مدلول السلطة التي يمارسها مجلس بلدي أو قروي، كما يمارسها رئيس أو مدير معمل أو مصنع على مقاولته. وليس للسلطة بدون وصف كاشف أي معنى دقيق.

7 ـ أراضي السلطة الفلسطينية بدلاً من التراب الوطني الفلسطيني، أو الأراضي الفلسطينية المحتلة كما تسميها الأمم المتحدة. ولم تُحدَّد لهذه الأراضي حدود، فهي في النهاية ما تقبل إسرائيل «التنازل» عنه في صفقة السلام المغبونة.

8 ـ الرئيس عرفات عن قصد كذلك تتحدث لغة المفاوضات عن الرئيس عرفات بدون وصف آخر أو يذكر على أنه رئيس السلطة الفلسطينية وهو التعبير الذي لا يحدد طبيعة سلطته ورئاسته.

9 ـ جبل الهيكل هذا اصطلاح اضافته إسرائيل إلى لغة المفاوضات بعد تعثرها في كامب ديفيد الثانية على وضعية الحرم القدسي القانونية، وبعد أن «تنازلت» إسرائيل فعرضت أن تكون لها السيادة على أسفله، وللعرب السيادة على أعلاه. وهو ترويج جديد للحديث عن الهيكل المزعوم الذي قضت إسرائيل سنوات عديدة في البحث والتنقيب عنه في أسفل المسجد الأقصى فلم تعثر له على أثر.

10 ـ إعلان اتفاق الجانبين على وقف إطلاق النار بدلاً من قيام إسرائيل بإيقاف إطلاق النار. فأية نار يراد من شعب فلسطين أن يوقفها وليس للحجارة نار، بينما رصاص إسرائيل الناري حصد العشرات من القتلى والمآت من الجرحى وهدم العمارات وصوَّبه «باراك» إلى صدر الرئيس الفلسطيني وحكومته والشرطة الفلسطينية، فأصاب منها وأخطأ. والبقية تأتي.

هذه بعض المصطلحات التي عجَّ بها معجم المفاوضات ولغة الحرب الإسرائيلية السادسة يبعث بها الإعلام الدولي الذي يسيطر عليه اليهود فيلتقطها بكل أسف إعلامنا العربي الإسلامي. ويقع في فخ التضليل الذي تغذيه إسرائيل مستبلِدة العالم وضاحكة على أذقانه.

آمل أن يتجنبها إعلامنا ويتعامل معها بالحذر ويسمي الأشياء بأسمائها.