منظمة التحرير الفلسطينية.. بعد التحرير

TT

فيما يستعد الإسرائيليون والفلسطينيون للعودة إلى المفاوضات يبدو أن فرص تحقيق سلام عادل ودائم تزداد بعداً. ففي الشهر الماضي، تزعزعت حتى الفرصة الضئيلة بعقد اتفاق «ينهي النزاع» حين أطلقت مبادرة من داخل منظمة التحرير الفلسطينية غايتها الحفاظ على الموقع المتقدم للمنظمة في السياسة الفلسطينية بعد أي اتفاق حول الوضع النهائي.

وليس مفاجئاً أن منظمة «ثورية» مثل منظمة التحرير تحاول إقحام نفسها في النظام السياسي ما بعد الثوري. وتبديداً لأي شك، أعلن سليم الزعنون رئيس المجلس الوطني الفلسطيني يوم 10 أغسطس (آب) الماضي، أن إعلان الدولة الفلسطينية لا يعني بأي شكل نهاية منظمة التحرير، التي يلعب فلسطينيو الخارج في ظلها دوراً مرموقاً.

والواقع أن الزعنون أشار في جريدة «الأيام» الفلسطينية اليومية إلى أن أعلى هيئة في المنظمة، وهي اللجنة التنفيذية، قد أصدرت بالفعل توصية بإقامة برلمان وطني من 300 عضو يضم 150 نائباً ينتخبون مباشرة من داخل الدولة الفلسطينية، و150 مقعداً آخر ينتخبون في الخارج. وكثيرون من هؤلاء الخارجيين إن لم يكن كلهم، سوف تعينهم منظمة التحرير في مراكزهم المقترحة. وقد جرى تفصيل وإدخال بنية هذا البرلمان في مسودة للدستور الفلسطيني.

إن تصور برلمان من هذا النوع، نصفه من غير المقيمين وغير المواطنين يدل على أنه شيء غير عادي وغير مسبوق. بل هو أيضاً افتراق عن تصريحات سابقة أطلقها كبار القادة الفلسطينيين، مثل رئيس الدائرة السياسية في المنظمة فاروق القدومي، حول الوضع المستقبلي للمنظمة. ففي شهر فبراير (شباط) 1996، على سبيل المثال، أعلن القدومي أن منظمة التحرير بعد قيام دولة مستقلة «لن تعود موجودة أو تتحول إلى حزب سياسي». وهذا التحول في السياسة الفلسطينية له مدلولات مهمة سواء بالنسبة إلى الحكم الفلسطيني في الداخل، أو بالنسبة إلى عملية السلام.

ذلك أن احتمال تشكيل هيئة تشريعية نصف أعضائها تقررهم منظمة التحرير بعد الاستقلال، ليس احتمالاً مغرياً لأهالي الضفة الغربية وقطاع غزة. فهم في النتيجة قاموا في شهر يناير (كانون الثاني) 1996، ولأول مرة، بانتخاب ممثليهم هم إلى المجلس التشريعي الذي هو بمثابة برلمان فلسطيني. واليوم، ومع أن قطاعات متعددة من الفلسطينيين ما زالت تدعم منظمة التحرير وياسر عرفات دعماً قوياً، فإن هؤلاء يشتكون أيضاً شكاوى مريرة من طريقة الإدارة والحكم في ظل السلطة الفلسطينية.

وإذا وضعنا قضية الديموقراطية جانباً، فإن هذا التطور الجديد سوف تنظر اليه واشنطن من منظور عملية السلام. والسؤال الأساسي بهذا الشأن يتعلق بطبيعة وغاية منظمة التحرير في مرحلة «السلام» وبالمدى الذي يبقى فيه وجود هذه المنظمة حائلاً مانعاً لسلام قابل للدوام.

فقد عملت منظمة التحرير تقليدياً، بصفتها «الممثل الشرعي الوحيد» للشعب الفلسطيني، على تمثيل الشريحة التي هي بحق أكثر الشرائح الفلسطينية تطرفاً ـ وهم اللاجئون. لكن بتوقيع اتفاقيات أوسلو لعام 1993، قبلت منظمة التحرير بوجود دولة إسرائيل، وهي بذلك اعترفت ضمناً بالمخاطر الوجودية التي ينطوي عليها «حق العودة» من جراء عودة لاجئي 1948 إلى المناطق الإسرائيلية بما يتهدد وجود الدولة اليهودية. وبالنظر إلى هذا التفاهم، فهل يعني ذلك أن منظمة التحرير، بعد إقامة دولة فلسطينية مستقلة ومنح اللاجئين حق العودة إلى الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، سوف تبقى هيئة نشطة غير رسمية تكرس جهودها للقتال من أجل حق هؤلاء اللاجئين في العودة؟ الجواب نعم، حسب ما قاله الزعنون من أن دور المنظمة سوف يبقى لضمان مصالح اللاجئين.

إن هذا الجواب يمثل التيار السائد في السياسة الفلسطينية. والحقيقة أن بعض دعاة حقوق اللاجئين الفلسطينيين بدأوا يقولون إن اللاجئين يجب أن يواصلوا الضغط والعمل لنيل أي حقوق لا يراعيها اتفاق الوضع النهائي. ومع ذلك، ومن الناحية المنطقية، فإن أي اتفاق للسلام تكون له قيمة لا يستطيع بوضوح أن يسمح للمنظمة برفع راية حقوق ساومت عليها وتخلت عنها. فبعد التوصل إلى اتفاق، لا بد للمنظمة، كمنظمة للتحرير، أن تزول كأمر واقع. غير أن هذه النظرة، على ما يبدو، ليست النظرة التي تروجها وتتبناها القيادة العليا في منظمة التحرير.

فالملابسات الناشئة من وجود صوت مؤسسي لمنظمة التحرير في النظام السياسي بعد السلام، هي مشكلة حقيقية. ذلك أن اللاجئين، بعد «التحرير» سيتحولون تالياً إلى مبرر الوجود الوحيد للمنظمة. فهي بقاعدتها السلطوية الخاصة من غير قيود تفرض عليها الخضوع لمحاسبة الناخبين، سوف تتحول على الأرجح إلى منظمة قوامها اللاجئون، ومصدر تطرف وشغب دائم داخل الحكومة الفلسطينية.

وبالنظر إلى هذا الاحتمال، فإن دور المنظمة في الدولة الفلسطينية العتيدة لا يمكن فهمه على انه مجرد شأن داخلي تقرره السلطة الفلسطينية. والحقيقة انه من مصلحة الفلسطينيين والإسرائيليين والأميركيين إقامة نظام سياسي فلسطيني يشجع على الديموقراطية والاعتدال. وقد حاول المفاوضون الإسرائيليون والفلسطينيون تأكيد هذه الحقيقة بإدخال لغة في اتفاق أوسلو الثاني لعام 1995، تحض على التطور الديموقراطي، ولكن عبثاً. ويدل استقراء التجارب التاريخية على أن بقاء دور مهيمن لمنظمة التحرير قوامه اللاجئون في سياسات ما بعد قيام الدولة من شأنه أن يبقي الوضع الراهن غير الديموقراطي مسيطراً.

ومن الناحية الفعلية، فإن مستقبل منظمة التحرير هو قضية كامنة في صلب أي اتفاق منتظر للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فإذا استمر وجود منظمة التحرير كإطار لفلسطينيي الخارج، فهل يمكن أن تكون هناك «نهاية للنزاع» كما عبر عنها الإسرائيليون؟ وإذا كان هناك أي أمل في تسوية دائمة، للإسرائيليين والفلسطينيين على السواء، فإن عبارة «نهاية النزاع» يجب أن تحمل مدلولاً يتعدى الألفاظ، فالتعبير العملي عنها يجب أن يكون في البنى المؤسسية للحكومة الفلسطينية. فإذا أصبحت منظمة التحرير القائمة كإطار للاجئين جزءاً لا يتجزأ من الحكومة في الدولة الفلسطينية المستقبلية، فإنه من المؤكد حتماً أن النزاع سوف يستمر.

ومن المفارقات في هذا الصدد، أن الطريقة الوحيدة لضمان ديمومة اتفاق الوضع النهائي قد تكون في تفكيك المنظمة المسؤولة في النهاية عن توقيع الاتفاق!

* باحث متخصص في الشؤون الفلسطينية في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى». ومؤلف كتاب «الديموقراطية والحكم في السلطة الفلسطينية: تقويم للمجلس التشريعي» الصادر عن منشورات المعهد لعام 2000 ـ بالاتفاق مع «الديبلوماسي» ـ (خاص بـ «الشرق الأوسط»)