أسطورة شعب فوق الهزيمة

TT

حتى كتابة هذه السطور نهار الأحد، تواصل الحكومة الإسرائيلية ما يصدق عليه الوصف بأنه أكبر جرائم الحرب في هذا القرن. فقواتها لا تزال تستبيح جلّ، إن لم نقل كل الأراضي الفلسطينية، وتمارس أبشع صنوف القتل والإعدامات والاعتقال والإذلال والحصار، وفوق ذلك منع وصول المصابين إلى المشافي لتلقي العلاج، والأدهى والأمر الهجوم المتواصل على مقر الزعيم الرمز عرفات، والذي يتواصل منذ أيام من طابق إلى طابق حتى وصل إلى جدار الغرفة المجاورة، وقتل وجرح فيه عدد من حراسه، وإطلاق غاز الأعصاب على مكتبه شخصياً بينما هو ومن معه يقاومون ويمثلون قمة الصمود والتحدي والاستبسال بلا كهرباء ولا ماء، وحيث لم يسمح للإسعاف أن يصل ويحمل الجرحى!.

ومن تلك الغرف المظلمة والمحاصرة والمهدمة يرى العالم أبو عمار في ضوء الشموع يخاطب الضمير العالمي قائلا: يريدوني طريداً أو مستسلماً أو معتقلاً، وأنا أقول لهم، شهيداً شهيداً.

تنطلق هذه العبارات الباسلة إلى كل أسماع العالم من هذا الزعيم المحاصر لتشهد العالم على تحدي شارون للإرادة الدولية التي تمثلت قبل يوم واحد من اصدار قرار من مجلس الامن يطالبه بسحب قواته فوراً من رام الله وفك الحصار المضروب على القيادة الفلسطينية. ومع أن امريكا رحبت بالقرار ولم تستخدم الفيتو، إلا أن رئيسها الذي انتظرنا سماع صوته ليردع شارون الذي تنهمر قنابل طائراته ومدافع دباباته على رئاسة عرفات فجعنا بقوله: إن ما تقوم به إسرائيل هو دفاع عن النفس ومطالبته عرفات، الذي يواجه خطر القتل تحت حصار شارون، بأن يعمل ما في وسعه لوقف العنف فهو «يعرف ما هو مطلوب منه!» مؤكدا لنا ان شارون «طمأنه على عدم المساس جسدياً بعرفات!».

في الواقع لم تخب آمال العالم والعرب على وجه الخصوص، في ما سمع من بوش، وإنما تحسر الجميع من هذا التناقض الغريب في مواقف رئيس الدولة العظمى في العالم. فإدارته توافق على قرار مجلس الأمن الذي يطالب إسرائيل بالانسحاب الفوري ورفع الحصار فيما هو يعتبر الاجتياح والحصار دفاعاً عن النفس!.

لقد كان المأمول إرسال إنذار لإسرائيل بالانسحاب في ساعات وما لم تفعل فإن قوات دولية قد ترسل لتنفيذ القرار، أو على الأقل أن يدلي بوش بتصريحات تطالب شارون بالانسحاب بدلاً من تبرير ما فعل، مما يعطي انطباعاً بأن أمريكا متواطئة مع إسرائيل!. وهي متواطئة بكل المقاييس، ألم نسمع الإدارة الأمريكية ذات مرة وهي تطلب من إسرائيل الانسحاب الفوري وقد انسحبت خلال ساعات!، إذن لو كان الرئيس بوش يريد انسحابها من رام الله لورد ذلك في تصريحه ولما تأخر الانسحاب! نحن لا نريد أن نسترسل كثيراً في تقديم الكثير من الدلائل على التواطؤ الأمريكي، لكننا سنكتفي في هذا السياق بإبراز مثل أو مثلين فقط.

معلوم ان الحصار الإسرائيلي على الرئيس عرفات سبق انعقاد القمة العربية بأشهر عديدة، وتجلى للعالم كله في منعه من التوجه لمشاركة مواطنيه المسيحيين في احتفالات عيد الميلاد في نهاية العام الماضي في بيت لحم. وكان ينبغي على العرب وقتها أن ينهضوا بمسؤولياتهم في رفع هذا الحصار المهين بكل السبل، لكن تقاعسهم المشين كان أحد الأسباب، إن لم نقل أهمها في عدم كبح جماح هذا السفاح وردعه، حتى وصل الأمر إلى ما نراه من هوان وإذلال، لكن لا شك أن البعض منهم وقتها قد انخدع بالوعود الأمريكية التي روجت إلى عودة الجنرال زيني، خاصة أن الرئيس بوش، من باب المبالغة في تخدير العرب قال: إنه لو لم يكن على ثقة من نجاحه هذه المرة لما قرر عودته إليها!. بيد أنه للأسف الشديد، تبين الآن ان عودة زيني لم تكن بعيدة عن مخططات شارون، بل هي مكملة لها في محاولة رقيعة لتركيع الرئيس الفلسطيني ليقبل الشروط الاستسلامية الشارونية التي تفرغ ترتيبات تينيت وخطة ميتشل من محتواهما بمفهوم إسرائيلي تبناه زيني بحسبانه ورقة امريكية مستخلصة مما طرحه عليه الطرفان! وبالطبع لم يوقع الرئيس الفلسطيني صك الاستسلام، ولهذا تلقى شارون الضوء الأخضر لابتزازه تحت أسنة الرماح للتوقيع أو التصفية الجسدية!.

لقد كشف هذه الحقيقة وزير خارجية قطر بعيد اتصال له مع شمعون بيريز حيث قال: إن بيريز أخبره بأن المسألة ستحل إذا وقّع عرفات على ما طرحه زيني، للكيفية التي تنفذ بها ترتيبات تينيت، بينما اخبره وزير خارجية قطر ان هذا يعتبر ابتزازا وقبولا تحت طائلة التهديد.. هكذا يتضح بصورة اكثر جلاء ما يمكن وصفه بالتواطؤ الأمريكي الإسرائيلي. وبالتالي ما يقال عن وعد قدمه شارون لبوش بعدم المساس بحياة عرفات لا يعدو ان يكون كلاماً يفتقد إلى المصداقية أو أنه من باب درء المخاطر في تحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية على حد سواء، فالقانون الأمريكي يمكن أن يضع الرئيس الأمريكي تحت المحاسبة لو تبين أنه يبارك تصفية الزعيم الفلسطيني، كما ان الرئيس نفسه يريد ان يحافظ على شعرة معاوية مع العرب!، وإن كان ما قاله مؤخراً يعد صفعة لهم!.

في كل الأحوال، كان انحياز الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل ليس موضع جدال، والآن صار للأسف الشديد تواطؤا مع أبشع جريمة ترتكب في حق العرب والفلسطينيين لا تحتاج إلى تبيان مما يتطلب من العرب أن يعيدوا النظر في تعاملهم مع أمريكا، وان يتخذوا من التدابير ما يؤثر في مصالحها ويشعرها بأنها ما لم تأخذ مصالحهم في الحسبان فإنهم في حل من صداقتها ومن التعامل مع مصالحها بما يضمنها ويحفظها! وهناك الكثير الذي يمكن للعرب ان يفعلوه حتى تقيم الولايات المتحدة لهم حساباً يتكافأ ومصالحها وما يعتقد من صداقة!.

وإذا تركنا أمريكا جانباً وما كنا وما زلنا نرتجيه منها من مواقف، فيجب علينا أن نتساءل ماذا فعلنا نحن لاخوتنا الفلسطينيين وما ينبغي ان نفعله في هذه اللحظات التاريخية؟، لا بد أن نعي في المبتدأ ان السلام الذي رفعنا رايته لن يجد أذنا صاغية ما لم تكن لدينا القوة التي تجعل البدائل متوافرة، بحيث يشعر الطرف الآخر انه لا مجال للاستهانة برغبتنا في السلام ويطمع في استسلامنا، وبالتالي فإن شعار السلام لا يلغي شعار التسلح بما يحصننا من اطماع الاجتياح أو الاستهانة. ولا يمكن أن تكون الانتفاضة الفلسطينية وحدها هي خط دفاعنا الوحيد، فليس في ذلك ما يمكن أن يعتبر متكافئاً مع القوة التي تواجههم بها إسرائيل. إن الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك ولا أرى ان القادة العرب بحاجة إلى من يبصرهم بما هو مطلوب فلهم في تجاربهم ما يكفي ولهم من القدرات والإمكانات ما يستوجب الاشهار والتطوير والاستخدام. وعليهم ان يلتفتوا إلى نبض الشعوب وترجمته إلى أفعال تليق بوزن القضية وعظمة النضال الفلسطيني الذي أصبح أسطورة على كل الشفاه. ويلزمنا ان نستعيد من الذاكرة ما كنا نقدمه من قبل للقضية فنقدم مثله ونزيد عليه بما يتكافأ والظروف والمستجدات اقتناعاً منا بأن القضية هي قضية جميع العرب والمسلمين.