عرفات يستحق معاملة أفضل عربياً وأميركياً

TT

الكلمة تتوارى خجلا من ذاتها امام تضحية الآخرين بحياتهم. الكلمة تفقد معناها وقيمتها وتصبح خطرا كبيرا على قدر الشعوب اذا حلت محل العمل والفعل. مع ذلك، فالكلمة لا تخلو من تأثير نفسي في ظروف البطولة الفلسطينية الراهنة. فالشعر يواسي. الخطاب الحماسي يشجع. تدفق الاخبار والمعلومات يضع الناس في تماس سريع مع الحدث. التعليق السياسي يشرح ويفسر للرأي العام. وهكذا، فالكلمة الصادقة تبقى في كل الاحوال مسؤولية كبيرة.

ثمة اتجاه لدى الرأي العام العربي اليوم للتقليل من اهمية الكلمة. من هنا، تأتي محاولات الاستخفاف بقرارات قمة بيروت. لكن اصحاب هذه المحاولات ينسون ان هذه القرارات كانت موقفا سياسيا لدعم الكفاح العربي في فلسطين، وللتخفيف من عذاب الفلسطينيين. لا غنى للعرب عن الكلمة، لا إلغاء للسياسة حتى في ذروة النضال المسلح من اجل التحرير. وسبب النكبات المتلاحقة التي حلت بالاصولية الجهادية والانتحارية داخل العالم الاسلامي وخارجه كونها لا تفهم السياسة، وتسقط السياسة تماما من عملها المسلح.

لا أحد ينكر ان الاصولية الفلسطينية نبض من مقاومة الامة العربية للظلم والاحتلال. لكن «حماس» التي تتلقى تمويلها الاكبر من الخليج، حاولت نسف القمة، في يوم انعقادها، بواحدة من اكبر عملياتها الانتحارية ضد «المدنيين» الاسرائيليين.

لم تشأ «حماس» ان تعطي المبادرة السعودية الفرصة والوقت لتصل بالزخم العربي السياسي الى اقصى تأثيره الدولي. بل اعطت الفرصة لشارون وبوش للالتفاف معها على المبادرة والقمة، وللانقضاض على عرفات وتهديد حياته، وللاجتياح مرة اخرى بالدبابات الاسرائيلية.

كأن عرفات ايضا بات في مرمى الاصولية الفلسطينية والعربية. فكلما صعدت عملياتها الانتحارية اشتدت وطأة شارون في تحميل عرفات المسؤولية عنها. ولعل اعتقادا ضمنيا يتشكل لديها بان تصفيته او عزله بواسطة الاسرائيليين، سيمنحها الفرصة للحلول محله، وربما ايضا للتفاوض على تسوية ما مع الاسرائيليين بعد غيابه. وعلى اية حال، لي عودة في المستقبل الى المشروع الاصولي الفلسطيني.

لا أحد يعرف ماذا تحمل التطورات المتسارعة لعرفات. لكن الزعيم الفلسطيني، في محنته الحالية، يستحق معاملة افضل لدى الجميع، لدى الاصوليين والقادة والزعماء العرب، ولدى الاميركيين، وحتى ايضا لدى الاسرائيليين. كان الخطأ كبيرا في عدم السماح له بأيصال صوته الفلسطيني مباشرة الى العالم عبر شاشة القمة العربية. لكن خصومه في الوقت الذي يواجهون معه الخطر المشترك، شاؤوا حرمانه من تأكيد شرعيته ومكانته العربية امام الاسرائيليين. ولو لم يستهينوا به ربما لتردد شارون في الاستهانة به.

لقد تجلى ذكاء عرفات السياسي في اعادة الوفد الفلسطيني الى قاعة المؤتمر. وجاء صوته، عبر الصوت الهادئ لوزيره ومستشاره ياسر عبد ربه، ليقلل من عتب الحرمان وليدعو الى تجاوزه فورا، احتراما للقمة ومراعاة لتمرير المبادرة السعودية.

ايضا، رسم غياب الرئيس مبارك والملك عبد الله علامة استفهام كبيرة. حتى الان لم يصدر تفسير مقنع من القاهرة وعمان. واذا كان التغيب حقا لاحراج بوش الذي لم يفك اسر عرفات، فهو سبب واه جدا. فقد كان الغياب احراجا لعرب القمة اكثر منه احراجا للاميركيين. نعم، ايدت مصر والاردن بلا تحفظ المبادرة السعودية، لكن توقيع مبارك وعبد الله على محاضر القمة كان، لا شك، قد اعطاها مصداقية مصرية واردنية اكبر بكثير من بصمات وزرائهما عليها.

لقد انطلق الصوت الاميركي ليصف القمة بالفوضى. لكن الديبلوماسية السعودية تمكنت بمهارتها الصامتة والصابرة، وبالتنسيق مع حيوية عمرو موسى، من تحويل الفشل والفوضى في اليوم الاول الى نجاح باهر في اليوم الثاني. وحال الادب السعودي التقليدي، الى الآن، دون التعبير عن عتب معلن او امتعاض ظاهر من الغياب المصري ـ الاردني.

ولعل احدا لم يلاحظ ان قمة بيروت كانت انجازا خليجيا مشتركا مع «المتشددين » العرب، من سوريين ولبنانيين وليبيين، خلال الحضور الباهت «للمعتدلين» الاردنيين والمصريين. والتحفظات السورية والليبية لم تقلل من قيمة «الاجماع» على تأييد المبادرة السعودية. فقد رفض الليبيون اي «تطبيع» مع اسرائيل. واستغل السوريون غياب مبارك والملك عبد الله للمطالبة علنا بالغاء معاهدات الصلح والسلام والتطبيع مع اسرائيل.

كنت اتوقع ان تمر مبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز بفضل البراغماتية السعودية ـ المصرية. لكن في غياب مبارك تكفلت المصداقية السعودية لدى العرب وحدها في تمرير المبادرة عبر عنق الزجاجة الذي تحكمت به الفلسفة السفسطائية السورية والفلسطينية الرافضة، وهو رفض ليس بجديد، بل تعود بدايات تشكله الى اربعينات القرن الماضي.

ولعل الانجاز المشترك السعودي ـ السوري في القمة قد اكسب البراغماتية السعودية خبرة اكبر في التعامل مع الفلسفة السياسية السورية والفلسطينية. يبقى ان يأخذ السوريون شيئا من البراغماتية السعودية، ولا سيما في مجلس الامن الذي تحتل سورية الان مقعدا فيه.

لا شك ان الاميركيين فوجئوا بالمصالحة السعودية ـ الكويتية ـ العراقية. وكان قرار القمة المعلن برفض تغيير نظام صدام بالقوة، في مقابل اعتراف وفده باستقلال وسيادة الكويت وعدم تكرار «فعلته» باحتلالها، آخر ما كانت الادارة الاميركية تنتظره من القمة.

لقد سارعت واشنطن الى التشكيك بالتعهدات العراقية. وهو تشكيك في محله، فلا يكفي ان يصدر التعهد من الوجوه العراقية الشاحبة التي حضرت القمة، بل لا بد من صدورها من الوجوه القاتمة المتجهمة في اعلى «مقامات» السلطة الفعلية في بغداد. وعلى اية حال، فاذا كانت القمة قد اجلت الخطر، فهو ما زال قائما اذا لم يمتثل صدام ويسمح بعودة المفتشين الدوليين، واذا لم يكف عن الانفاق على مشروعه الكيماوي والجرثومي.

وسيظل عراق صدام، الى امد طويل، مدينا للسعوديين على هذا الموقف القومي النبيل في القمة. لقد عبر الاميركيون عن غضبهم بتغيير مفاجئ في موقفهم الفلسطيني. فبعد مبادرتهم في مجلس الامن لمطالبة اسرائيل بالانسحاب الفوري من مقر عرفات، ظهر بوش على الشاشة ليمنح تأييده مجددا للاجتياح الاسرائيلي الجديد، وليطالب عرفات المحاصر داخل مكتبه بجنود شارون بملاحقة «الارهاب» واعتقال «الارهابيين»! وهكذا، فقد جاء التشديد الاميركي على حبس عرفات ردا غاضبا على الافراج الخليجي عن صدام.

أكاد انسى ان تسارع الاحداث الخطيرة يكاد يتجاوز حدث القمة. وقد تسألني، ايها القارئ العزيز، عن المخرج من المأزق الفلسطيني ـ الاسرائيلي، فاذا كان لي من رأي، فأقول ان المبادرة السعودية تحتاج بعد «تعريبها» الى آلية للتطبيق والتنفيذ. واعتقد هذه الآلية متوفرة في مشروع كلينتون الذي يعيد 95 بالمائة من الضفة وغزة الى الدولة الفلسطينية معترفا بالقدس عاصمة لها.

لقد وافق الفلسطينيون والاسرائيليون في كامب ديفيد على تفاصيل المشروع. وكان موقف عرفات العربي والاسلامي صحيحا في رفضه بقاء الحرم القدسي تحت السيطرة الاسرائيلية، الامر الذي ادى الى فشل كلينتون وسقوط باراك. وتوأمة المبادرتين العربية والاميركية كفيلة باستكمال الاتفاق بالتفاوض مجددا حول مسألة القدس وكيفية عودة اللاجئين. لكن لا بد اولا من الافراج عن عرفات «المفاوض الفلسطيني الشرعي» الوحيد، وانتظار «مفاوض اسرائيلي شرعي» بديل لشارون. والامل ان لا يطول هذا الانتظار كثيرا.

أخيرا، اريد ان اقول قبل ان انسى ايضا ان الصحف العربية تفضلت مشكورة بنشر خطب ومحاضرات القمة. وكنت انتظر ان اعثر على كلمة ذلك الافريقي الانيق القادم من الامم المتحدة الذي خاطب القمة بصوت متواضع هامس: «ان شعوبكم تهفو الى فرص لمجتمعات حرة ومنفتحة متميزة بادارة جيدة، وحقوق الانسان، وحرية التعبير، وحكم القانون».