أميركا .. كوني ما شئتِ واسكتي

TT

قضى مستر بوش اجازة الفصح المجيد، في مزرعته الخاصة في كراوفورد، بولاية تكساس، مطمئناً، رغم كل الفظائع التي ترتكب، إلى أن أمور إمبراطوريته الكونية تسير، تماماً في الاتجاه الصحيح الذي أراده لها . فالحليف شارون يستكمل، بمنتهى الحذق والأمانة، مهمة أميركا «النبيلة» التي بدأتها في أفغانستان اثر الحادي عشر من سبتمبر، ويتمكن من رقاب «الإرهابيين» الفلسطينيين ويطاردهم حتى في أسرّتهم، وينجح في حشر رئيسهم داخل غرفة معتمة ومعزولة ويضعه أمام خيار الاستسلام أو الحكم بالإعدام . ولربما فرح الرئيس بوش، ضمناً، بالماكينات الإعلامية النشيطة والرشيقة التي لا تفوت إذلالاً أو سفكاً أو تدميراً إلا ونقلته على شاشاتها، ففي ذلك درس للمكابرين حيثما وجدوا، وللعاصين والخارجين على قانون الإمبراطورية العظمى وأوامرها العليا، ومساهمة جليلة من قبل إسرائيل لدفع العجلة باتجاه السلام والأمن العالميين اللذين تنشدهما الولايات المتحدة.

لكن هذا المنطق الأخرق الذي يناسب بعض أصحاب المصالح، وحفنة من المغفلين، بات يثير سخرية العالم وهلعه ومن ثم صمته المرتجف وبغضه الدفين، وهو منطق ينسحب على مختلف الاستعراضات التهريجية ـ الدرامية لسياسة الإدارة الحالية التي تحصد في طريقها كل أمل بتوازن ممكن أو أمن يرتجى. لهذا فعلى الأمريكيين أن لا يكرروا على مسامعنا، بعد اليوم، سؤالهم التقليدي، الذي أجابتهم عليه أمم الأرض، وبكل اللغات بما فيها الإنجليزية، ومع ذلك ما زالوا يستوضحون بمنتهى الوقاحة، وباستهتار استفزازي: «لماذا يكرهنا العالم»؟

إن دعاة السلام الغربيين ـ وبينهم أمريكيون ـ المستنفرين بالمئات، في شوارع رام الله والقدس وبيت لحم الذين جعلوا أجسادهم دروعاً بشرية لحماية الفلسطينيين والذود عنهم، معرضين أرواحهم لخطر الموت، ليسوا، على الإطلاق حركة فولكلورية يقودها الترف إلى تبني قضايا ضعفاء العالم الثالث، كما يراد تصويرهم، إنما هم يمثلون ضمير مئات، وربما آلاف الملايين من الصامتين والمغلوبين على أمرهم، الذين يملكون الوعي الكافي بضراوة المأزق الأخلاقي العبثي والمنطق الانتهازي الذي تحاول الولايات المتحدة تعميمه وعولمته، وما يجره من ويلات على البشرية. وبالتالي فالمعركة بحيثياتها الاستباحية الدائرة الآن، في فلسطين، لمن يعي ويدرك، ليست شأناً عربياً وحسب، بل هي تضع العالم بأسره على محك اختبار خطر، حيث يبدو، ظاهرياً على الأقل، وكأن إسرائيل وأميركا في خندق واحد ونداءات واحتجاجات ما تبقى من خلق الله في خندق مقابل، ومع ذلك فهو خندق هزيل ومسحوق ولا سلطة حقيقية له في التأثير على ما يجري، جبناً أو ضعفاً أو استخفافاً، والنتيجة سواء، فان المهزلة مستمرة والصمت بحجم فضيحة.

ويذكّر حال أميركا في دفاعها المخزي عن إسرائيل، بذلك الحاكم الذي ولد له طفل بأنف طويل جدا، فحار ما يفعل به كي لا يتركه عرضة لسخرية الآخرين وانتقاداتهم اللاذعة، ولم يجد حلاً سوى تركيب أنوف مشابهة لبقية أفراد الرعية. فعاشوا وهم يعرفون أن أنوفهم مزيفة، لكنهم اضطروا للعب أدوارهم، والاندماج في هذه الحقيقة الكاذبة المهينة مع إضمارهم النية المبيتة في الانقلاب عليها. وإسرائيل المخلوق الأشوه، ذو الأنف الطويل، لا تستطيع أن تستمر بعوراتها من دون أنوف طويلة تلصق عنوة على وجوه الآخرين. لكن ما يتهدد إسرائيل وأميركا بمعيتها، هو أن تتسبب هذه الأنوف بما لم يكن بالحسبان، فتساعد أصحابها على رؤية ما هو أبعد من مدى أنوفهم الأصلية القصيرة بدل أن تحجب الرؤية عنهم، وهو عكس ما كان ينتظر ويؤمل.

وأن ترى، ولو كنت قصير النظر، في عصر الفضائيات ليس بالأمر العسير، وهو عنصر لن يخدم بالضرورة الطموح الأمريكي ورغبة الإدارة في إعادة تربية المجتمعات كما تلاميذ المدارس البائدة، بالتلقين الغبي والضرب على الأصابع. فالجميع يعلم أن ياسر عرفات ليس بن لادن ولن يكون، وفلسطين لا تشبه أفغانستان، والفلسطينيين ليسوا حركة طالبان، وخلط المعايير والمفاهيم على هذا النحو السافر، الذي تحاول أميركا فرضه بالقوة والاستبداد، سيشكل بفعل الضغط وقسوته نتائج مضادة، قد تبدأ بتمرد هنا أو هناك، لكنها قد تنتهي إلى طوفان من الغضب لا يميز بالضرورة، بين جيد ورديء. لقد زار الأراضي الفلسطينية قبيل بدء تدمير مقر السلطة الفلسطينية في رام الله وإهدار دم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، أعضاء مؤسسون في البرلمان العالمي للكتّاب، وغالبيتهم من مشاهير الأدباء، تضامناً منهم مع الشعب الفلسطيني ودعماً لحقه في السلام. وقد ذهل الأديب البرتغالي وحائز نوبل خوسيه ساراماغو لما شاهدته عيناه من قمع وبطش فقال متأثراً: «ما يحدث هنا جريمة يجب أن تتوقف.. جريمة يجب أن نضعها إلى جانب أوشفيتس.. واضح أن ليس هناك أفران غاز، لكن القتل لا يحدث فقط بأفران الغاز». وهو كلام أثار غيظ الكتاب الإسرائيليين، حمائمهم قبل صقورهم، حتى أن الكاتب اليساري عاموس عوز أحد أبرز «دعاة السلام» رد بسخط معتبراً أن ساراماغو «أظهر عمى أخلاقياً» وأن كلامه جاء بمثابة «بصقة في وجه ضحايا النازية، وبصقة في وجه معسكر السلام في إسرائيل، وبصقة في وجه الإنسانية جمعاء». ولربما كان من البديهي أن لا يحتمل عوز اتهام دولته بالنازية، فالحقيقة جارحة ومرعبة أكثر مما تحتمله مخيلته، لكن المشكلة الكبرى هي في التحصن وراء حمى الأخلاق، ودائماً الأخلاق، داخل هذه المعمعة الإسرائيلية التي تفوح منها روائح مجازر نتنة وصرخات اغتصاب ماجن. فلا غرابة في أن يكون الإنسان همجياً ومؤذياً وهو محتل ومارق لكن الصدمة تقع حين يتقمص المعتدي دور مصلح ومنظر أخلاقي يكتب دستوراً جديداً للبشرية بدماء ضحاياه وعلى لحم الأحرار والمقاومين. وهذا هو الدرس العنيف الذي اخترق عظامنا، منذ سمعنا السيد باول يتحدث، بقناعة يحسد عليها، عن ضرورة نبذ الإرهاب من قبل الفلسطينيين بينما كانت المدفعية الإسرائيلية تدك أبنية مؤسسات رسمية، وتسعى لأن تطال حياة رئيس منتخب ومعترف به دولياً كممثل شرعي لشعبه، وعندما طالعنا الرئيس الأمريكي بخطاب في العفة من عيار أقوى ليصيبنا باليأس الكامل الذي قد لا يغادرنا ما حيينا. واليأس هو، لسوء حظ أميركا وحليفتها إسرائيل العدو الأشرس، الذي لم تفلح العبقرية التكنولوجية بعد، في اختراع أسلحة تفتك بجموحه، فهو يلتهب بنيران الصواريخ وينتعش ويترعرع بروائح البارود وعلى وقع قصف الطائرات. وربما لهذا السبب أو لأسباب أخرى نجهلها، كان الجنرال ديغول يردد، والقول له وليس لنا: «الأمريكيون أقوياء، شجعان وأغبياء».

[email protected]