الصورة السياسية من قلب رام الله

TT

مع تصاعد وتيرة العدوان الوحشي الذي يشنه شارون ضد الشعب الفلسطيني وسلطته ومؤسساته، تتضح لنا هنا في رام الله ابعاد الصورة السياسية لما يريد شارون تحقيقه.

لقد اصبح واضحا لجميع من يريد ان يرى الحقائق ان شارون لا يريد السلام. بل يسعى ويعمل ويشن الحرب الهمجية ضد الشعب الفلسطيني كي تبتلع اسرائيل كل الضفة الغربية وقطاع غزة، على ان يترك لمن تبقى منهم ادارة شؤونهم البلدية تحت السيطرة الاسرائيلية الكاملة. ومن يستعيد مسلسل الادعاءات والمبررات التي ساقها شارون، منذ ان تسلم رئاسة الحكومة في اسرائيل كي لا يقترب من طاولة المفاوضات، يتأكد من انه لا يريد الانسحاب وبالتالي لا يريد السلام. لأن انسحاب اسرائيل من كامل الاراضي التي احتلتها عام 1967 هو مفتاح السلام وليس اي شيء آخر.

شن شارون الهجمات العسكرية وقاد مسلسل الاغتيالات واختراق مناطق السلطة بشكل متتابع، وهو يعلم علم اليقين انه ستكون لحملاته الوحشية هذه ردود فعل، سواء من السلطة، او المنظمات او الافراد الذين نكبوا عائلياً خلال عمليات التنكيل الاسرائيلية. وبدا هذا الامر اوضح ما يكون، عندما اعلن الرئيس ياسر عرفات، في خطاب وجهه للشعب وقف اطلاق النار. ودام وقف اطلاق النار هذا ثلاثة اسابيع لم يشأ شارون لها ان تكون مدخلاً لتطبيق خطة تينيت وورقة ميتشل. لأن هذا كان يعني باختصار التوجه لطاولة المفاوضات تحت يافطة الرؤية الاميركية للحل (التي اعلنها كل من الرئيس بوش ووزير خارجيته كولن باول) وذلك لأن التوجه لطاولة المفاوضات كان سيؤدي الى جدولة الخطوات لاقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، من ناحية، ولأن ذلك سيقوده الى تصادم مع الولايات المتحدة ورؤيتها للحل من ناحية اخرى.

ولا بد من القول هنا، بصريح العبارة، مؤكدين على ان الاحتلال الاسرائيلي هو مصدر الارهاب المنظم ضد الشعب الفلسطيني الأعزل والذي لا يملك جيشاً ولا حتى سلاحاً دفاعياً وفي الوقت نفسه فان العمليات الانتحارية التي ارتكبها متطرفون فلسطينيون ضد اهداف مدنية داخل اسرائيل (والتي ادانتها السلطة الوطنية تباعاً) ساعدت شارون مساعدة كبيرة على الاستمرار في تنفيذ مخططه الرامي لابتلاع الضفة والقطاع. وجاءت العمليات الاخيرة لتعطيه، امام الولايات المتحدة، المبرر لشن الحرب الشاملة على الفلسطينيين، والتي اطلق عليها في مجلس وزرائه المصغر «حربنا الاخيرة مع الفلسطينيين».

الفارق كبير وشاسع بين ارهاب الدولة المنظم الذي تشنه اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وبين ارهاب افراد ضد اسرائيل. ولكن اهم هذه الفوارق هو ان ارهاب الدولة المنظم ضد شعب بأكمله، تستخدم فيه طائرات إف ـ 16 والأباتشي والدبابات والمدفعية والصواريخ الخ، هو الذي يولد ويسبب حالات الارهاب الفردية المواجهة. فالاعتداء الوحشي الاسرائيلي سبب ويسبب احتقانا وكبتا وشعورا بالقهر والاذلال واللاحول ولا قوة لدى الشعب الفلسطيني، مما دفع البعض للتضحية بالروح والجسد لانزال خسائر باسرائيل، لا يمكنه انزالها بها (دفاعا عن النفس) من خلال سلاح يشرع في وجه آلتهم العسكرية. لكن الرئيس بوش لا يستطيع (او لا يريد) ان يرى الامور على حقيقتها وان يضع الامور في نصابها. فمنذ ان دخل البيت الابيض، اتخذ مواقف مؤيدة لشارون، وانحاز له انحيازا اعمى. واليوم عاد ليدين الارهاب الفلسطيني ويتهم ياسر عرفات بالتقصير. وكذلك فعلت وزارة الخارجية الاميركية. وليت الرئيس بوش يعلم ان السلطة الوطنية الفلسطينية والرئيس ياسر عرفات ادانا هذه العمليات، كما ادانها هو!! لكن هذه الادانة صدرت من مقر تحاصره دبابات اسرائيل، وفي وقت حوّل شارون وقواته المدن الفلسطينية الى معسكرات اعتقال اسوأ من معسكرات الاعتقال التي نقرأ عنها (Concentration Camps). ان ما يجري هو الهولوكوست الجديد في العام 2002 وبرعاية الرئيس الاميركي الذي يقع في اخطاء كبيرة، قد لا يدفع ثمنها الآن لكنه سيدفع ثمنها لاحقا وسيسجل التاريخ له هذه الجريمة كما سجل لآخرين جرائمهم. فشارون يقود بوش، نحو مستنقع الجرائم الجماعية التي ترتكب ضد الانسانية. وسيسجل التاريخ اسم بوش الى جانب اسم شارون في قاموس الجرائم الجماعية ان لم يصح ويتخذ موقفاً عادلاً من الصراع في الشرق الأوسط.

هذه الأيام تجري اتصالات مكثفة بين البيت الابيض وشارون، حول الحرب التي يشنها شارون وموفاز ضد الشعب الفلسطيني. وفي ظل التصريحات المتتالية (على غير عادة) التي يؤكد فيها بوش دعمه الكامل للجرائم التي يرتكبها الجيش الاسرائيلي (دفاعاً عن النفس) وادانة ياسر عرفات تبحث واشنطن شروط شارون الجديدة لوقف اطلاق النار وتطبيق تقريري تينيت وميتشل. نقول (شروطاً جديدة) لكنها في الواقع شروط اضافية. فقد زاد شارون بعد شنه الحرب الهمجية الجديدة ضد الفلسطينيين فطالب بتسليم الموقوفين لدى السلطة والسماح له بتدمير فلسطين بحجة تدمير البنية التحتية للارهاب. وسمحت له واشنطن بمحاصرة ياسر عرفات (خارقاً كل الاتفاقات التي تعهدت الولايات المتحدة بحمايتها وضمنت الالتزام الاسرائيلي بها).

الشرط الشاروني الجديد هو انه على استعداد، بعد انهاء حربه ضد الشعب الفلسطيني، ان يتفاوض على تطبيق تينيت وميتشل (وليس التسوية السياسية او تطبيق الرؤية الاميركية او قرار مجلس الأمن 1397)، ولكن ليس مع ياسر عرفات، بل مع آخرين من القيادة الفلسطينية، اي ان شرطه الجديد هو ان يختار بنفسه مفاوضي الشعب الفلسطيني. بكلام آخر شارون يريد ابعاد ياسر عرفات عن المسؤولية التي انتخبه الشعب الفلسطيني لأدائها، وأبلغ بوش هذا لعدد من الزعماء العرب. والمضحك ان بوش يعتبر قرار الحكومة الاسرائيلية ملزماً له، او انه يضع حاجزاً بينه وبين مواقف بلاده التي اعتبرت ياسر عرفات رئيساً للشعب الفلسطيني وأشرفت بنفسها من خلال الرئيس الأسبق جيمي كارتر على تلك الانتخابات. ولهذا السبب، رضخ زيني وبقية المندوبين الدوليين الموجودين في فلسطين لقرار شارون بالا يقابلوا عرفات، (حتى وان كان قد منعهم بسبب الاغلاق فقد كان عليهم ان يتحدثوا بصوت عال عن هذه الصفعة للولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي).

لقد تمكن متطوعون من نشطاء السلام من دخول مكتب ياسر عرفات، رغم الدبابات والاسلاك الشائكة فلماذا لم يفعل المندوبون الدوليون كما فعل المتطوعون الاميركيون والاوروبيون والاستراليون والكنديون. لأنه، كما يبدو بدأت الولايات المتحدة بالخضوع مرة اخرى لشارون وشروطه الجديدة. وهذا سيضيف لتاريخ الرئيس بوش نقاطا سوداء جديدة.

ياسر عرفات هو عدو اسرائيل بطبيعة الحال لأنها دولة تحتل الضفة الغربية وقطاع غزة وترفض حتى الآن تطبيق القرار 242 الذي اتخذ في العام 1967 وشارون هو عدو فلسطين للسبب ذاته. ولقد قرر الفلسطينيون عندما بادروا بطرح مبادرة السلام عبر المفاوضات عام 1988 ان يتفاوضوا مع اعدائهم بدلاً من الاحتكام للسلاح. وذلك لانهاء الاحتلال واقامة دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنباً الى جنب مع اسرائيل بسلام وتعاون. ومضى على تلك المبادرة اربعة عشر عاماً من دون ان يتحقق هذا الهدف، بالرغم من كافة المفاوضات والاتفاقات المرحلية التي ابرمت.

والسبب بالطبع الحكومات الاسرائيلية المتتابعة التي لم تمتلك الجرأة بعد اغتيال اسحق رابين الذي وقع اتفاقية التفاهم مع ياسر عرفات والرئيس كلينتون.

والآن تعود الامور للوراء. ويتفاجأ شارون ان ياسر عرفات «عدو اسرائيل»، وكأن شارون لا يعرف السبب او يتناسى انه هو نفسه عدو الفلسطينيين. ما كان ياسر عرفات ليكون عدواً لاسرائيل لو لم تكن هي البادئة بالعدوان باحتلال ارض الشعب الفلسطيني ونهب ثرواته وخنقه واذلاله يومياً. ولا ندري كيف سيجيب الرئيس بوش على سؤال حول كيف سيتصرف ازاء دولة تحتل ولاية كاليفورنيا مثلاً؟

الارهاب هو الاحتلال وما يترتب من ردود فعل الشعب الاعزل على الاحتلال وممارساته التنكيلية تقع كامل مسؤوليته على الدولة المحتلة وليس على الضحية.

بودي ان يعطي احد مستشاري الرئيس بوش، درساً في الجغرافيا للرئيس الاميركي وأعوانه ليرى ان الجيش الاسرائيلي يرتكب جرائم جماعية في الارض الفلسطينية المحتلة وان جيوش ياسر عرفات لا تحتل تل ابيب وتقصفها بطائرات إف 16 والاباتشي ولا تدمر منازل سكانها وتقتلع اشجارهم... وأظافرهم.

* مستشار للرئيس الفلسطيني