هذه جزرة.. وهذه عصا!

TT

في قمة بيروت، تحولت مبادرة الامير عبد الله الى مبادرة عربية رسمية للسلام. كان الجو ملبدا ماطرا في بيروت. كذلك الاشاعات والمزايدات على التضامن مع عرفات الذي أهين بقصد أو بدونه وتبرير الغياب بالتمارض أو المزايدة على الشارع العربي بالتظاهر بالحرص على فلسطين أو لغرض في نفس؟؟؟.

تدفق آلاف المراسلين والمراقبين من جنبات الارض. والحدث: الاعلان المنتظر من الامير عبد الله عن مضمون الاشارة المقتضبة التي ألقى بها الى صحفي امريكي، فشاعت عبره الى دوائر السياسة الاقليمية والدولية. مجرد اشارة في مقال صحفي عرضت باسلوب الغموض البناء اثارت ما أثارت من قبول وفضول وجدل.

وفي تمهيده أو ديباجته لتقديم المبادرة في نقاطها الواضحة ذكر الامير في مؤتمر القمة «ان الحق يعلو ولا يعلى عليه، وقد ادرك كل صغير وكبير في فلسطين انه لا طريق الى تحرير ارضه أو ترابه الا بالكفاح والصمود، أو بالسلام العادل الشامل». وهنا مرتكز الطرح: تحرير الارض بالكفاح والصمود أو بالسلام العادل الشامل، ويعني ذلك، ضمنيا، إمكانية تلازم الاسلوبين معاً: استمرار الكفاح والصمود حتى قبول اسرائيل بالسلام العادل الشامل! أي ليست مبادرة و«كفى الله المؤمنين القتال»! جاءت المبادرة، في توقيتها الملائم، في ظرفها الشارط، لتلبي متطلبا سياسيا استراتيجيا، يوفر للنظام العربي الرسمي موقفا موحدا من عملية السلام ويلجم هرولة بعض الدول العربية الى اقامة اتصالات وعلاقات مع اسرائيل ارضاء لامريكا رغم انها لا ترتبط بمعاهدات معها. والمبادرة تشكل رؤية عربية دبلوماسية استراتيجية واحدة وواضحة، تقلب الطاولة على اللاعبين باوراق السلام في الشرق الاوسط بحسبانها معادلة امريكية / اسرائيلية برسم تحالفهما الاستراتيجي، والغاية فرض «سلام ظالم على العرب بقوة السلاح». وهو ما حذر منه الأمير عبد الله ليصبح المطلوب واضحا محسوما: القضية قضية تحرير ارض، بالكفاح والصمود، أو بالسلام العادل الشامل المشروط بقبول اسرائيل به كما هو مطروح في المبادرة، لأنها «تسرف في الخطأ اذا تصورت انها تستطيع ان تفرض سلاما ظالما على العرب بقوة السلاح».

على وجه ثان من خطاب القمة، كان خطاب الاسد، تنويعا تحليليا على المبادرة الاستراتيجية في رؤيتها المنظورة لانهاء الصراع العربي ـ الاسرائيلي عند حدود 4 حزيران 67 باعتباره افضل ما يمكن الحصول عليه في المدى المنظور «بالكفاح والصمود أو بالسلام العادل الشامل». أما امر مستقبل فلسطين التاريخية فمتروك لأجيال قادمة. في ظروف موضوعية أخرى ستفرض منطقها! تكتيكيا تعري المبادرة اسرائيل من اكاذيبها السياسية عن انها دولة مهددة في وجودها من العرب الذين يرفضون السلام معها! وكما كان متوقعا تعمد شارون بجيشه وليكوده ويمينه مع خادميه بيريز واليعازر، تعمدوا، هروبا من استحقاقات السلام، نسف المبادرة العربية بنسف مقر عرفات جدارا فجدارا، غرفة فغرفة، ظنا منهم انهم سيذلونه وهو الذي لا يذل والجبل الذي لا يهزه ريح، الجبل المجبول من روح الفلسطين الاسطورة الذي طوع الموت، جعله ينقاد له، طوع عنانه، سلاحا فتاكا يرهب (بالمعنى القرآني الدقيق) عدو الله وعدوه «وكفـى بالله شهيداً».

إن المطلوب هو التلازم بين أفق سياسي للحل السلمي ودعم ملموس للانتفاضة. أي ان يستطيع العرب لأول مرة ان يلعبوا بالعصا والجزرة. عصا الانتفاضة الغليظة وجزرة السلام الشامل بما يعنيه من علاقات دبلوماسية «طبيعية» مع دولة اسرائيل. ومن تجارب العلاقات الطبيعية بين اسرائيل ومصر، ثم الاردن ندرك المعنى الحقيقي من وجودهم الدبلوماسي المنبوذ شعبيا، فلا ضرر ولا ضرار ولا ضرار ان اصبح لهم وجود دبلوماسي في شقة معزولة أو محصنة أو جناح في فندق! في خطاب الاسد، نجد تحليلا منهجيا، يقدم في سياق الفلسفة السياسية، قراءة تبني تصوره الاستراتيجي على الثوابت القومية التي تنبني عليها مبادئ مبادرة الامير عبد الله «سلة الافكار التي نضع فيها ثوابتنا ونقدمها الى العالم» لينطلق منها الى تحديد مسار استراتيكي يوزن عرض السلام باستمرار المقاومة الذي يعني استمرار دعمها دعما ملموس النتائج ويموضع مصطلحات، مثل السلام والارهاب والانتفاضة والعنف والعنف المضاد، في مفاهيمها العربية وليست منقولة عن المفاهيم الاسرائيلية / الامريكية! ان مبادرة الامير، وقد غدت مبادرة عربية، تقدم مظلة دبلوماسية دولية تظهر العرب دعاة سلام عادل شامل، وبوسع العرب، في ظلها، ان يتخذوا قرارات عقابية ضد اسرائيل، ومن يساند عدوانها ولا حرج عليهم دوليا. بوسعهم، بل ينبغي طرد سفراء اسرائيل النازية وقطع العلاقات وتفعيل المقاطعة الاقتصادية، والتغاضي عن تهريب السلاح والمسلحين الى الاراضي الفلسطينية وغير ذلك..! الحاصل، حان وقت ترجمة غضب الشارع الى ممارسة سياسية قومية تربط الامن القطري بالأمن القومي، ولتكن عقلانية وتكتيكية، ولكن مؤثرة تأخذ بالحسبان تأثيرات الرأي العام وتستجيب لمشاعر الانسان العربي المهان في كرامته، والمطعون في هويته القومية.

حان الوقت كي يلعب العرب بالعصا والجزرة بحسبانهم أمة يحسب حسابها دوليا، وانهم، كما قال الامير «عندما قرروا قبول السلام خيارا استراتيجيا لم يفعلوا ذلك عن عجز مهلك، أو ضعف قاتل، وان اسرائيل تسرف في الخطأ اذا تصورت انها تستطيع ان تفرض سلاما ظالما على العرب بقوة السلاح»، أي ان بوسع الأمة ان تجنح للسلم اذا جنحوا، وهذه جزرة، وان تجنح الى «الصمود والكفاح» وهذه عصا، اذا بغوا وتجبروا وذلك ما يفعلون..

ويبقى في درج الأمير الكثير! [email protected]