فيكتور هوجو: صاحب «البؤساء» وأبو «الوحدة الأوروبية»

TT

ليس هناك كفرنسا في احتفائها بالشعراء والأدباء والفنانين، وليس بالضرورة ان يكونوا فرنسيين. فكم من الموهوبين في مجال الفنون والآداب وحياة الفكر عامة من كافة الجنسيات منحتهم فرنسا اعترافها فاكتسبوا مكانة عالمية، اقربهم الى الذاكرة على سبيل المثال خورخي لويس بورخيس الكاتب والشاعر الارجنتيني الذي يعتبره البعض اعظم من كتب بالاسبانية بما فيهم «سيرفانتس» و «كيفيدو». وباريس «مدينة الانوار ليست عاصمة فرنسا فقط، بل عاصمة الدنيا واذا كان للآخرة عاصمة لكانت باريس». (د. عبد الرحمن تاج شيخ الازهر الأسبق الذي درس في السوربون). فما البال اذا كان المحتفى به في ضخامة ومكانة فيكتور هوجو وهو الشاعر والاديب والروائي والفنان والمسرحي. لكن فوق هذا كله فهو صاحب الرؤية المستقبلية التي سبق بها عصره بما يقرب من قرنين. بهذه الصفة بالذات تحتفل فرنسا ومعها كل اوروبا على مدى هذا العام بـ «عام هوجو» بمناسبة مرور مائتي عام على ميلاده (1802 ـ 1885).

ان مكانة هوجو الفريدة بين قمم الفكر الفرنسي مستمدة ليست فقط في نبوغه المبكر وموهبته التي زادتها الايام نضجا، او التنوع الكبير في انتاجه المبدع في كافة فروع الانتاج الفكري، وانما لمكانته ايضا في تطور الحركة الادبية في اوروبا في القرن التاسع عشر وكونه المحرك الاول لها. لكن صفته كمفكر تتفوق على صفته كأديب. وانه لتوافق جميل انه في الوقت الذي تحتفل فيه فرنسا بذكرى ميلاد هوجو تحتفل اوروبا هذه الاسابيع ببداية مرحلة جديدة من العمل الاوروبي بوضع «دستور اوروبي» و «اتفاقية اوروبية جديدة» استعدادا لانضمام دول اوروبية جديدة. فهوجو الذي تحتفل به فرنسا تحتفل به اوروبا كلها لأنه الذي سبق غيره في الدعوة الى الوحدة الاوروبية وان تتحول اوروبا الى دولة واحدة وشعب واحد وعملة واحدة وتشريعات واحدة.

لقد سئل وهو شاب صغير عما يريده لنفسه في المستقبل فأجاب بدون تردد «ان اكون شاتوبريان وإلا فلا»، وكان شاتوبريان وقتها قمة الفكر الفرنسي، وهو ما حققه بالفعل، وكان شاتوبريان يسميه «الطفل المعجزة». ولعل اندريه جيد كان محقا في اجابته على سؤال عن اعظم شعراء فرنسا قائلا: هوجو بالطبع. ومع ذلك فرؤية هوجو لنفسه هي انه مفكر يدعو الى فكره من خلال الادب.

فقد رأى في نفسه صاحب رسالة، كقائد للجماهير، قائد لا بالسيف او المدفع وانما بالكلمة والفكرة. فهو أقرب الى زعيم روحي للنفس البشرية او صاحب رسالة انسانية. ان كل اعماله الادبية ومواقفه السياسية كانت تصب في اتجاه واحد هو الشعب فحوّل الشعب الى رأي عام سابقا بذلك كل ساسة العصر الحديث. وان اتجاهه الانساني الذي فاض ليتسع للانسانية كلها كان المحرك لحياته ولكل اعماله، وكثيرا ما كان يتساءل «لماذا لا نعطي الشعوب الحق في ان تحلم بالمستحيل وهو الحرية والعدالة» لأنه كان يعرف ان العدالة هي الكفاح من اجل العدالة، والحرية هي الجهاد من اجل تحقيقها حتى وان لم تتحقق لنا كاملة.

مثّل هوجو الرومانسية الفرنسية التي عبر عنها شاتوبريان، لكن بنوع من العالمية وبعيونه المفتوحة على التغيرات الاجتماعية التي كانت تعتمل داخل فرنسا وفي العالم، نشوء البروليتاريا الجديدة في المدن وظهور قراء من طبقة وسطى والثورة الصناعية والحاجة الى اصلاحات اجتماعية، فتدفعه هذه التغيرات الى التحول من نائب محافظ بالبرلمان الفرنسي مؤيد للملكية الى مفكر اشتراكي ونموذج للسياسي الاشتراكي الذي سيجيء في القرن العشرين، بل اصبح رمزا للتمرد على الاوضاع القائمة.

وفي الوقت الذي حافظ فيه كتاب فرنسيون آخرون على الركون الى العزلة، كتاب كبار مثل ستاندال وبودلير ومالادميه، فقد فضل ان يبتعد عن فرنسا في المنفى واستمر حوالي عشرين عاما حتى لا يشهد اعادة تنصيب نابليون الثالث، هذا النفي الذي كان يمثل نفي الحرية ذاتها. ومع كل ما تميز به كبار كتاب فرنسا الآخرين فقد كان دفاعه عن الحرية اكثر جرأة وحيوية واصرارا من آخرين مثل بلزاك او فلوبير او ستاندال، حتى انه يصف الثورة الفرنسية في «البؤساء» انها عمل من صنع الله، واكثر من غيره مثل فضيلة الكفاح ضد الظلم.

هناك اذن هوجو السياسي ورجل التاريخ الذي جعل من اوروبا ـ وليس فرنسا فقط ـ ضرورة ان تتحد ليسودها السلام. وكانت دعوته الى اوروبا المتحدة انعكاسا للطابع العالمي لفكره ومفهومه عن البشرية كأسرة واحدة، وكان عليه ان يبدأ من المكان الذي بدأ ينهض فيه الفكر والحضارة الجديدة، اوروبا. ولا ادل على صدق اتجاهه الاوروبي انه وهو عضو في البرلمان الفرنسي يدافع عن عضوية «غاريبالدي» الايطالي الذي كان قد انضم برتبة جنرال الى القوات الفرنسية في حربها ضد بروسيا حتى انه اضطر امام معارضة البرلمان لتقديم استقالته. كذلك فلم يستطع ان يستمر في مسلكه السياسي لأنه كان يؤمن باصلاحات اجتماعية ما تزال محل نقاش كبير حتى في القرن الواحد والعشرين. اذ كان يؤمن بمجانية التعليم وبحيث يكون الزاميا وحرية التعبير وحقوق الانسان الاخرى، خاصة حقوق المرأة والطفل والغاء عقوبة الاعدام وتعميم حق الانتخاب، فكان الممثل الوحيد للفكر التقدمي في نهاية القرن التاسع عشر. حتى الكاتب المكسيكي الكبير كارلوس فونتيس لا ينسى موقف هوجو الرائع في دفاعه عن المكسيك ضد الأطماع الامبريالية لنابليون الثالث، نابليون الصغير.

لقد ادرك فيكتور هوجو في عصره ما ادركه بناة الوحدة الاوروبية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين من انه لا سلام في اوروبا خاصة بين فرنسا والمانيا إلا باقامة وحدة اوروبية. وقد تعرض فكره هذا لامتحان قاس عندما هزمت فرنسا في حربها ضد بروسيا عام 1870 والتي فقدت فيها فرنسا مقاطعتي الالزاس واللورين. فقبلها بعام ترأس مؤتمرا للسلام في «لوزان» بسويسرا شارك فيه عدد من دول اوروبا، خاصة فرنسا والمانيا، افتتحه بتوجيه خطاب الى الحاضرين كمواطني «الولايات المتحدة الاوروبية»، وعلى الرغم من انه لم يقبل اتفاقية السلام التي ضمت بروسيا بمقتضاها المقاطعتين إلا انه كان مقتنعا انه بدون تصالح الفرنسيين والالمان فلن يتحقق اي سلام في اوروبا ولن تتحقق وحدة لاوروبا. لذا يوجه نداءه الى الالمان قائلا: ان بلدين اثنين صنعا اوروبا هما المانيا وفرنسا ولا بد من تعاونهما. و يكرر النداء في العام التالي مهيبا بالشعوب الاوروبية ان لا تنظر الى نفسها أكثر من «شعب اوروبي واحد» و «اسرة واحدة»، بل «جمهورية واحدة». انه هوجو الذي هشمت القوات الالمانية التي دخلت باريس عام 1941 تمثاله النصفي تحت نظر حكومة فيش المتعاونة! وهو نفسه هوجو الذي شيعه مليونا مواطن ليدفن عام 1885 في مدافن العظماء، وتخلده شجرة سنديان كان قد زرعها في حديقة منزله بعد عودته الى فرنسا من المنفى سماها «سنديانة اوروبا المتحدة».

وفي الاحتفالات التي بدأتها فرنسا بهوجو وقد روعيت ان لا تكون مركزية، بحيث تغطي حتى المدن الصغيرة في كافة انحاء فرنسا كان نصيب باريس فقط 102 حفل من محاضرات ومعارض رسم وحلقات بحثية واعمال مسرحية وبرامج تلفزيونية. كذلك اعيد نشر اعماله الكاملة التي تزيد على 17500 صفحة وعدد من السير الجديدة، ويلفت النظر في البرنامج ما طلبه وزير التعليم ان يحتوي اول درس للفصل الدراسي الثاني هذا العام قراءة على مستوى كافة المدارس بفرنسا وتفهما لبعض نصوص هوجو يعقبها نقاش حول شخصه.

ومن النصوص الموحية الدالة على فكر العبقري الفرنسي نص اشار اليه ليونيل جوسبان رئيس الوزراء الفرنسي الحالي ورد في خطبة لهوجو عام 1853 كان قد وجهها الى المنفيين من فرنسا: «سيجيء الوقت الذي ستتحول فيه القارة الاوروبية الى شعب واحد وستبقى الجنسيات المختلفة، لكن داخل مجتمع واحد. فيها ستكون فرنسا جزءا من اوروبا واوروبا جزءا من الانسانية. وستوجد عملة واحدة للقارة كلها قاعدتها كل الرأسمال الاوروبي، تحل محل هذا التنوع المضحك لعملات اوروبا بصور امرائها رمز قرون طويلة من البؤس والفقر». وكان ميشيل روكار رئيس الوزراء الاسبق وقت التصويت في فرنسا على قبول اتفاقية ماستريخت يذكر الفرنسيين ببصيرة هوجو الذي تنبأ بأنه ستقام في القرن العشرين دولة غير عادية في ضخامتها وثرائها ولا تحدها حدود ستكون لها قيمة كبرى، ستدعو الى التعاون والسلام بين كل شعوب العالم، تسمى «اوروبا». وقد تحققت النبوءة واقيم الاتحاد الاوروبي بالفعل الذي ازال الحواجز وقرر حرية تنقل الافراد والسلع والاموال، وتحققت الوحدة النقدية والعملة الواحدة، وها هي اوروبا تضع اتفاقية اوروبية جديدة ودستورا اوروبيا لمواجهة حركة الانضمام النشطة من جانب عدد كبير من الدول الاوروبية.

لقد مهدت كتابات هوجو لانجاز تاريخي اصبح مضرب المثل لشعوب اخرى في مناطق اخرى في العالم بما فيه عالمنا العربي. لذا لم تتوقف اعادة طباعة اعماله، وهي التي كانت مصدر الهام من الافكار الجديدة في مجالات الادب والفن ايضا.

ان وفاء القارئ هو الذي يبقي المفكر حيا حتى بعد مماته، بل يمنحه الخلود. وهذا هو حال فيكتور هوجو الفرنسي، الاوروبي، العالمي الذي لن يكف عن تذكره كل قارئ للأدب والتاريخ وكل محب للسلام والحرية والعدالة من الأجيال القادمة.