قمة المبادرة والمصارحة والمصالحة والوضوح

TT

طيلة أسبوع قبل انعقاد القمة العربية ببيروت ظلت أنظار العالم مشدودة إليها في تحسُّب لما سينتج عنها وما ستنتهي اليه. وبعد الجلسة الأولى تسارع البعض إلى توقع فشلها أو الحكم عليها بانتهائها قبل بدايتها. وقال عنها آخرون إنها نصف قمة لأن تمثيل نصفها كان أقل من مستوى رؤساء الدول. وزاد المتشائمون يأسا من نجاحها غيبةُ رئيس جمهورية مصر العربية، وملك المملكة الأردنية الهاشمية عنها وهما الدولتان العربيتان المرتبطتان مع اسرائيل باتفاقية سلام والمطبِّعتان معها بمقتضى هذه الاتفاقية.

وعلى امتداد الجلسة الأولى تفاقم هاجس الخوف على مصير القمة بمداخلة رئيس الوفد الليبي الذي كان ينمُّ خطابه عن اتهام العرب بإقصاء مبادرة السلام التي تقدم بها قائد الثورة الليبية إلى الجامعة العربية في قمة عمان وشكِّلت لجنة لدراستها، لكن لم يتضمن جدول أعمال قمة بيروت أية اشارة إليها، وكأنما كان لسان حال المندوب الليبي يقول إنه يريد ان يعلم الاسباب التي كانت وراء اقصاء المبادرة الليبية مقارَنة بالسند الإيجابي الذي حظيت به المبادرة السعودية مع أنها جاءت بعد مبادرة قائد الثورة الليبي. وكاد يقول لِمَ هذا الكيل بمكيالين؟

ثم كانت ثالثة الأثافي الخطأ الذي وقع فيه رئيس المؤتمر عندما أخر اعطاء الكلمة للرئيس عرفات لإلقاء خطابه عبر الأقمار الصناعية، وما ترتب عليه من انسحاب وفد دولة فلسطين، والتصريح الذي افضى به رئيس الوفد الفلسطيني، والذي كان مفتول العضلات ومضيفا اتهاما آخر بحجب الخطاب الى اتهام الوفد الليبي الذي سبقه بشأن اقصاء المبادرة.

هذا الجو المختنق الذي مرت فيه وقائع الجلسة الأولى كهرب مناخ أشغال المؤتمر ورجَّحَ توقع فشل المؤتمر على حظوظ نجاحه.

لم يكن مفهوما ان يتمثل نصف دول الجامعة العربية بمستوى أقل من مستوى الملوك والرؤساء والأمراء في اجتماع مصطلح على تسميته بالقمة وغير عادي بجميع المقاييس. ولم يكن من قبيل الصدفة ان يقال في تبرير غياب الرؤساء إنه حالت بينهم وبين الحضور أسباب شخصية أو خاصة أو صحية، فهذه التبريرات التي يكتنفها الغموض لا تُقنع ويُعبَّر عنها باسم المرض الدبلوماسي ولا ينخدع بها أحد.

وتغير جو المؤتمر شيئا فشيئا إلى أعمال مسؤولة ايجابية عندما طرح الأمير عبد الله بن عبد العزيز أفكاره عن مبادرة السلام، وتحدث ببساطة لكن بعمق، مبرزا في حديث مقتضب ولكنه جامع أسباب تقدمه بالمبادرة، ملقيا بمسؤولية تعديلها للوصول الى تبنيها على المؤتمرين لتصبح مبادرة عربية ووجه الخطاب إلى اسرائيل بصراحته المعهودة ليعدها وينذرها بأن لا سلام ولا أمن لأبنائها بالاستمرار في الاعتماد على القوة العسكرية التي حصدت منها الفشل طيلة ما يزيد على نصف قرن، وأن المبادرة المطروحة تُوفِّر لها الأمن المنشود مقابل الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة منذ يونيو / حزيران 1967. وخارج هذه المعادلة لا يوجد حل لمشكلة الأمن الإسرائيلي.

وجاء خطاب رئيس المؤتمر العماد إميل لحود مؤيدا للمبادرة ومؤشرا إلى انها تحظى بالتأييد من كافة الأجنحة العربية بما فيها ما يطلق عليه جناح التشدد. ثم تلاه خطاب عاهل المغرب الملك محمد السادس بوصفيه: رئيس دولة المغرب، ورئيس لجنة القدس، فكان دعمه للمبادرة غير مشروط وبدون تحفظ. ووجه النداء إلى اعضاء القمة ان يتبنوا المبادرة لتصبح المبادرة العربية التي تلتقي على تأييدها كافة الدول العربية وركز الملك محمد السادس على الثوابت وفي طليعتها تحرير القدس واقامة دولة فلسطين فوق ترابه.

وبدَّدَ خطاب رئيس الوفد الليبي الالتباس الذي كان يُنسب إلى موقف بلاده من المبادرة السعودية عندما أيدها هو أيضا بدون تحفظ وإن لم يغفل العودة إلى التركيز على ضرورة الاهتمام بالمبادرة الليبية. وهكذا ساهمت هذه المواقف الصريحة الثلاثة في اضفاء الايجابية على القمة ورجحت حظوظ نجاحها على احتمال فشلها الذي تلاشت حظوظه، خاصة بعد عودة وفد فلسطين إلى مقعده.

وفي جو المصارحة هذا جاء خطاب الرئيس السوري ليضع النقط على الحروف، حيث بلغت به المصارحة أشدها خاصة عندما ترك خطابه المكتوب وارتجل درسه الأكاديمي المدعوم بحجة المنطق والمتحلي بأسلوب الجدال بالتي هي أحسن، معالجا قضايا حيوية وواضعا إياها في موقعها الصحيح بأسلوب صريح مباشر. فالعرب شعب سلام لا إرهاب، والإرهاب غير المقاومة المشروعة، والمبادرة السعودية تحظى بالاجماع عليها، لكنها كل لا يتجزأ، ومرفوض الانتقاص منها أو التعامل مع بعضها دون الآخر. وهي آخر فرصة للسلام إذا لم تقبلها إسرائيل فستقود المنطقة ـ بما فيها هي نفسها ـ إلى الكارثة، مسلطا الأضواء على المفهوم الحق للتطبيع، وعلى ان العرب مجمعون على إقامة علاقات عادية مع اسرائيل لكن بعد استرجاع الأراضي المحتلة في فلسطين، وسوريا (الجولان وطبرية)، وما تبقى تحت احتلال إسرائيل من جنوب لبنان، والاعتراف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.

ومن هذه اللحظة التي كانت رهيبة وواعدة أصبحت القمة تعمل في جو الوضوح الذي ساعدت المصارحة على توفيره لجميع الأطراف المعنية بالسلام.

يمكن القول ان القمة عملت في الجلسات الخاصة المنعقدة خارج قاعة المؤتمر أكثر مما عملت في جلسات القمة الرسمية، سواء منها العلنية أو المغلقة. وقد بدا من خلال الحوار الهادئ ان الأمانة العامة للجامعة العربية أجادت اعداد اعمال القمة هذه المرة بما لم يسبق اليه قبل، وان المؤتمر شق طريقه لاصدار بيان ختامي يتميز عن سوابقه بوضوح الرؤية، وهو ما كان مفتقدا في الاجتماعات السابقة.

وإذا كان أصل المبادرة سعوديا والاتفاق عليها اجماعيا، فإن ذلك يعني ان العرب اصبحوا لا يتوفرون على مجرد رؤيا سياسية فقط، بل ايضا على قيادة حكيمة ذات وزن كبير، وأن مبادرتهم دخلت التاريخ من بابه الواسع، وانها وبصرف النظر عن ردة فعل إسرائيل عليها ستصبح بتبني المجتمع الدولي لها ـ وهو ما حصل فعلا ـ رافعة لمركبة السلام الشامل العادل الذي تستفيد من حسناته جميع أطراف النزاع، ولا مناص لإسرائيل عن التخلي عن ركوب رأسها واضطرارها للجلوس في الأمد المنظور لتتفاوض على أساسها، بعد التسليم بصلاحيتها أساساً للتفاوض.

ستسهم ايجابية القمة وإجماعها على المبادرة السلمية في تقصير عمر حكومة «شارون» التي أتتها ضربة القمة من حيث لم تكن تحتسب، وستذكي جذوة نزعة السلام في الشعب الإسرائيلي الذي لن يغفر لحكومته اضاعة فرصة السلام المنصف التي أتاحتها له قمة بيروت.

وإن ردة الفعل الغاضبة من الوحش الإسرائيلي المطعون بإعادة الاحتلال إلى الأراضي الفلسطينية المحررة لن يستطيع لها الشعب الإسرائيلي فهما، لأنه سيزداد وعيا بأن حكومته الحاضرة عجزت عن تحقيق أمنه الموعود، كما هي عاجزة عن كسر صمود شعب فلسطين الشهيد، وسيحقد على حكومته أنها اضاعت الفرصة وحولتها إلى غُصة.

إن المصارحة التي ميزت قمة بيروت كانت في آن واحد مصارحة مع شعب إسرائيل ومع الذات العربية. وبفضل هذه الأخيرة شقت مصالحة العراق مع الكويت طريقها ورسمت خطوات نحو التوصل الى تجاوز الماضي بإنصاف الكويت في حقها الذي لم يعد مهددا بالاعتداء عليه، بعد التزام العراق بوحدة تراب الكويت، واحترام سيادته على حدوده، وبما ابداه من استعداد للنظر في ما بينه وبين الكويت من خلاف على موضوعات الأسرى والتعويض ورد ما انتُهب في الحرب.

وتجلت آثار المصارحة والمصالحة في الإجماع الذي انعقد على رفض ضرب العراق وكل دولة عربية، وفي العناق الحار الذي باشره الأمير السعودي نجم القمة مع نائب الرئيس العراقي، وفي المصافحة المتبادلة بين هذا الأخير، ونائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الكويتي.

أما الوضوح فقد ساد جميع وقائع القمة وأبرز بصماته على البيان الختامي، فالعرب ضد الارهاب الذي يعني قتل المدنيين. لكنهم مع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ويشيدون بالانتفاضة، ويقفون صفا مرصوصا مع القيادة الفلسطينية وعلى رأسها عرفات المستعد للشهادة والذي وصفه «شارون» بعدو إسرائيل، مما يتسع معه هذا الوصف الغبي إلى ان العرب كلهم أعداء إسرائيل مع أنهم مدوا لإسرائيل يد السلام والقبول بالتعايش.

وأخيرا فإن العرب قدموا للمجتمع الدولي وطرحوا على إسرائيل مبادرتهم وهم في موقع القوة، لأن المقاومة العسكرية في فلسطين في قمة أوجها، ولأن سوريا ملتزمة صارخة بالتمسك بترابها المحتل، ولأن لبنان تؤكد على وجوب رفع الاحتلال عما بقي مغتصبا من أرضها، ولأن الدولتين العربيتين (مصر والأردن) اللتين أبرمتا مع إسرائيل اتفاقية السلام تعلنان عن خيبتهما من تصرفات اسرائيل العدوانية، ولأن الشارع فيهما يطالب بانهاء التطبيع الذي لم يترتب عليه أي تعامل بالحسنى من لدن اسرائيل مع القضية العربية.

هكذا يبدو وبجميع المقاييس والاعتبارات ان قمة بيروت كُتب لها النجاح. ومن قد يطعن في نتائجها باعتبار مقرراتها جاءت دون المطلوب لا يملك ان يعارضها ببديل آخر، ما دام المشاركون في القمة أعلنوا تأييدهم للمقاومة الفلسطينية في الوقت الذي أكدوا فيه ان السلام خيار استراتيجي لجميع العرب.