عندما تموت الأمة

TT

عندما تموت الأمة يبقى الأفراد يأكلون ويشربون ويتناسلون. ويستمر وجود الأمة كأفراد في وحدات بيولوجية متفرقة لا يضمها خيط، ومؤشر الموت أمران: الانكفاء على الذات بحثاً عن الخلاص الفردي، وفقد الانتماء. وهو مرض لا يحدث على نحو حاد، بل على التدريج، كما نرى في حركة النزوح العقلي الجماعي من الصحراء العربية الى واحات الديموقراطيات الغربية. واذا تصورنا الأمة على شكل شبكة يحتل فيها الأفراد مكان عقد الاتصالات والعلاقات الاجتماعية خيوط الشبكة فإن تمزق الشبكة يحصل في الغالب عندما (يتضخم) الأفراد على حساب خيطان الشبكة. وتنتهي الأمة من خلال تمزق شبكة الاتصالات مع بقاء عقد الاتصالات متورمة منتفخة مثل عقد الالتهاب.

وعندما يموت الشخص لا يضيع منه شيء كمواد أولية فالماء والمواد المعدنية ترجع فتشارك في دورة الطبيعة، والاوكسجين الذي تنفسته الديناصورات قبل 65 مليون سنة ما زال يدخل رئات الكثير من البشر، ولكن لم يبق على ظهر البسيطة ديناصور واحد. وعندما يموت الشخص يتحلل الى مواده الأولية ولكن هندسته البيولوجية الخاصة تندثر بالكامل. وما يحدث في موت الأمم شبيه بهذا. قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ.

وفي السرطان يحدث امران مروعان: فبقدر دمار الجسم بقدر نشاط الخلايا المتسرطنة، ولو استؤصلت خلايا السرطان وغذيت فهي تتابع حياتها بعد موت الجسم في رحلة ضد الموت. وهو ما يحصل مع موت الأمم. فيستمر الأفراد في المحافظة على وجودهم البيولوجي (كوحدات) مثل (طوب البناء) يمتصها مجتمع قوي فيبني نفسه منها، كما تفترس افعى الاناكوندا الفريسة، فمع تحلل اللحم يتحول الى وحدات من البروتينات تساهم في ترميم جسم الثعبان. ولكل امة اجل فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

وعندما مات المجتمع الاندلسي في القرن الخامس الهجري بدأ في التفسخ على شكل دول الطوائف. والمرض الاندلسي لم نتعاف منه بعد. وما زال مخطط الانحدار يتابع طريقه مثل غرق التيتانيك وما زالت رحلة الهبوط لم تستقر في القاع.

وعندما تموت الأمة لا ينفع فيها الصراخ، كما ان اعطاء الأمل الكاذب لمريض مدنف لا يجعل منه لاعباً محترفاً في الملاكمة العالمية. اما الطبيب فينظر في الجثة بهدوء ويضع السماعة ثم يطلب من الأهل الترحم على الفقيد، ويبدأ الأهل في توزيع بطاقات النعوة. وهناك من يظن ان كمال اتاتورك قضى على الخلافة العثمانية وهو في الواقع لم يفعل اكثر من لصق بطاقات النعوة على جدار البوسفور. كما دلت دابة الأرض على موت سليمان.

الأفراد يموتون والمجتمعات تموت، ولكن بقدر وضوح موت الأفراد وحزن المحبين، بقدر غموض موت المجتمعات فضلاً عن بكاء الناس على كائن لا جثة له ولا نعوة. كما لم نر أحدا شارك في تشييع جنازة مجتمع.

لا يمكن استيعاب حقيقة موت المجتمع ما لم نعرف ما هو المجتمع؟ فالمجتمع ليس (كومة) من الأفراد، اذاً لكان تجمع الناس في مطار هيثرو يشكل أمة. ولكنه هندسة خاصة لمجموعة من البشر تقوم بنشاط مشترك.

وكما ان صدمة الموت عند الفرد حددها الطب بتوقف القلب عن الخفقان. فإن مؤشرات موت المجتمع تقع خارج البيولوجيا، بتوقف (الوظيفة) ثم بداية (تحلل) الشكل حتى الوصول الى مرحلة التفسخ الكامل.

في 23 اكتوبر عام 1086م وقعت معركة حاسمة على حدود البرتغال طحن فيها جيش المرابطين بقيادة (يوسف بن تاشفين) خيرة الجيوش الأسبانية في مكان عرف بالزلاقة (ساجراخاس Sagrajas) فوق نهر الميانة. ومعركة الزلاقة كانت استجابة لنداء النجدة الذي قام به ملوك الطوائف. ففي منتصف القرن الحادي عشر للميلاد آتى المرض الأموي اكله وتشرذم المجتمع الأموي الى قبائل، وانتهى حكم هشام الأموي بعد أن مات واحيي ثلاث مرات كما يصف (ابن حيان) متهكماً عند ميتته الثالثة: «وصارت هذه الميتة لحامل هذا الاسم الميتة الثالثة، وعساها أن تكون ان شاء الله الصادقة، فكم قتل وكم مات، ثم انتفض من التراب، ومزق الكفن قبل نفخة الصور». ثم جاء الطاغية المنصور العامري الذي كان موظفاً في القصر الملكي واستطاع عن طريق صلته بالحريم الملكي (الملكة صبح زوجة الخليفة الأموي) ان يقفز ليصبح ديكتاتور الاندلس المطلق. وعندما تصدع عرش الطاغية تصدعت مركزية الحكم فنشأت دول وصفها ابن حزم بأشنع الالفاظ: «بأنها اخلوقة لم يقع في الدهر مثلها ان يقوم اربعة رجال في مسافة ثلاثة ايام كلهم يتسمى أمير المؤمنين ويخطب لهم في زمن واحد، ففي اشبيلية بنو عباد، وفي قرطبة بنو جهور، وفي سرقسطة بنو هود، وفي طليطلة ذو النون، أما بنو الأفطس فحكموا البرتغال، ونصب البرزالي نفسه في قرمونة، واستمر الوضع هكذا حتى 479هـ 1085م حينما حصل الانهيار الاعظم فسقطت طليطلة (توليدو) عاصمة الأندلس التقليدية في يد الفونسو السادس. مما ادخل الرعب الى مفاصل ملوك الطوائف المذعورين بأشد من رؤية فأر لقطة سوداء. ونظرا لضيق المسافة الزمنية بين فداحة الانهيار وقوة الاسلام في الجزيرة فقد بقيت في القوم ذبالة من وعي تقرر ماذا تفعل اكثر من المحافظة على العروش». عبر عن هذا المعتمد بن عباد من اشبيلية فقال: لأن ارعى جمال المسلمين خير لي من رعي خنازير النصارى. وهذا الذي حصل، حيث مات في الأسر ذليلا فقيرا ودفن مع زوجته اعتماد الرميكية التي اخلصته الحب لآخر لحظة وتسمت باسمه (اعتماد والمعتمد) ودفن الاثنان في قرية اغمات القريبة من مراكش فقبر الحب يضم الاثنين في رحلة العالم الاخروي.

في معركة الزلاقة تحددت ثلاثة أمور: نهاية الأندلس ومعها دول الطوائف، فرملة الانهيار الاسلامي أربعة قرون حتى عام 1492م، وبزوغ فجر دول قوية تضم الاندلس اليتيمة تحت جناحها، وبذلك غاب مجتمع الطوائف الأندلسي في لجة التاريخ من يومها، وفي عام 1089م انتقل المد الصليبي الى المشرق، فسقطت القدس وبدأ المشرق الاسلامي بالترنح وهو يتعرض لضغط مزدوج فمن الشرق هدير الحصادة المغولية ومن الغرب المطرقة الصليبية التي استمرت 171 عاماً في أطول حرب عرفها الجنس البشري حتى عام 1270م في سبع حملات صليبية شارك فيها حتى الصبيان بحملة خاصة. وختمت الذاكرة الجماعية في المشرق والمغرب بعداوة شبه ابدية. وعندما يستعمل بوش لفظ حرب صليبية ويصر عليها فليست من فراغ، بل هي ذلك الرجع البعيد من أعماق اللاوعي المظلم من روح العصور الوسطى.

ان 95% من نشاطنا يوجهه اللاوعي وليس الوعي.

إن ما ارتاع منه ابن حزم ايام دول الطوائف يتكرر اليوم في العالم العربي على نحو اشنع. واذا كانت دول الاندلس ستاً فدول العالم العربي اليوم ثلاث وعشرون. وهي في زيادة ضد قوانين الرياضيات، فالزيادة تعني نقصاً، وكل دولة عربية جديدة، بما فيها دولة فلسطين التي تولد تعني مزيداً من التفسخ والشقاق. وعندما يتفسخ العراق الى ثلاث دول فهو يعني تصدع الصولجان الى ثلاثة صويلجانات بيد ثلاث طغاة اصغر حجماً واشرس طباعا.

في فرنسا تعرض راكب موتور عام 1939م لحادث وصدرت شهادة وفاته ثم دفن ثم اعيد استخراج جثته من القبر بعد يومين لغرض تشريحه بسبب خلافات مع شركات التأمين حول سبب الوفاة. ولكن القوم صعقوا حينما رأوا الجثة طرية ودافئة وبعد ساعات حرك اطرافه وعاش بعدها 24 سنة، ويمكن للأمم ان تمر بحالات سبات خطيرة من هذا النوع، ويمكن ان تبعث من تحت التراب بعد ان قرأ الجميع الفاتحة عليها. والموتى يبعثهم الله. ولعل مقاومة الشعب الفلسطيني هي بداية حركة اطراف الميت العربي.