مسؤولية العالم بعد اتفاق شرم الشيخ

TT

لم يجد اتفاق شرم الشيخ ترحيبا كبيرا من أي من الاطراف المعنية به، ولا من المراقبين الدوليين. كان الهدف المباشر هو وقف العنف «المتبادل» وهو وصف يكشف عن التجاهل التام المبيّت للحقائق. فكيف يتساوى الحجر مع صواريخ المروحيات وقذائف الدبابات ورصاص الرشاشات؟ وحتى «لجنة التحقيق الدولية» التي طالب بها ياسر عرفات قد حورت واصبحت لجنة باشراف الولايات المتحدة واسرائيل والسلطة الفلسطينية بالتعاون مع الامم المتحدة. واخيرا العودة للمفاوضات. وفي هذا تساءل الكثيرون على أي اساس؟ فلقد توقفت عند نقطة معينة هي القدس الشرقية. ومجمل الاتفاق يسوى بين القاتل والضحية ويترك الباب مفتوحا لثرثرات كثيرة من الواضح الا طائل من ورائها. ومنذ بداية العنف الاسرائيلي والعالم كله يشهد أن التواطؤ الامريكي بصفة خاصة هو المسؤول الاول عن كل التحديات التي تقوم بها اسرائيل ضد قرارات الامم المتحدة وضد الرأي العام العالمي، وضد كل المبادئ الانسانية البسيطة التي يخجل الناس عادة من معاداتها. وايا كان الامر فمنذ قيام اسرائيل والذي يتصدى لها هو الحكومات العربية، اما اليوم فيبدو ان الوضع قد تغير وفرض الشارع الفلسطيني والعربي نفسه على الساحة. ومن لديه اي معرفة بحالة المواطن العربي البسيط في غالبية الدول العربية يدرك ان الكيل قد فاض وأن القهر قد وصل ايضا الى المعتقد الديني والكرامة الدينية، الملجأ الاخير لهذا المواطن المتُجاهل من كل القوى والمحروم من كل الحقوق. ان اسرائيل ومَنْ وراءها من القوى الكبرى تستطيع ان تتسلح حتى اسنانها وأن تملك من المعدات العسكرية اكثر مما تملكه الدول العربية مجتمعة وأن تملك من اسلحة التدمير الشامل ما تعجز هذه الدول عن الحصول عليه. ولكنها لا تستطيع ان تقاوم انفجارات الشعوب التي لم يعد لها ظهير ولم يعد لها الا المقاومة المستمرة حتى الموت او النصر. اسرائيل تظن ان ياسر عرفات او منظمة التحرير الفلسطينية وراء الانتفاضة وانهم يملكون وقفها كما امتلكوا اشعالها. هذا وهم وجهل بالحقائق سوف يعرفونه بعد فوات الوقت. لقد وطأ أرييل شارون ارض المسجد الاقصى متحديا المشاعر الدينية هازئا بها في الوقت الذي استهان فيه المفاوض الاسرائيلي بأهمية القدس الشرقية الدينية وراح يساوم على الشيء الوحيد الذي لا يمكن التنازل عنه بعد كل الاذلال والقهر منذ استلاب الارض الفلسطينية حتى اليوم. ان الشارع العربي، وليس الفلسطيني فقط، في حالة توتر بالغة، وبين لحظة واخرى تظهر اشارات دخان عاصف دالة على حجم الغليان المكتوم. الامور ليست بالبساطة التي يتصورها السفاحون الاسرائيليون، وليست كذلك بالنسبة للقيادة الامريكية التي تتعامل معها بشيء غير قليل من الخفة. وما الذي يبقى لرجل مثل الرئيس بيل كلنتون الذي يغمض عينيه عامدا عن الظلم الصارخ والذي لم يجتهد في الحقيقة ان يكون وسيطا محايدا وانسانا عادلا؟ ومنذ اصدرت الامم المتحدة قراريها الشهيرين 242 و338 اللذين يرفضان احتلال اراضي الغير بالقوة ويقرران عودة اللاجئين، واسرائيل وحليفتها الكبرى ـ الولايات المتحدة ـ يتحايلان على تنفيذ القرارين طوال اكثر من ثلاثين عاما. ومع مرور الوقت تمتهن الامم المتحدة وتدار السياسات الدولية بعيدا عنها وتتحول بالتدريج الى اداة عاجزة فاقدة للهيبة في ايدي الساسة الامريكيين. وطوال رئاسة بيل كلينتون لم تتم اي معالجة حقيقية للمشاكل الدولية داخل المنظمة وصار دورها شكليا تستكمل به الاجراءات التي اتخذتها بالفعل الدولة الكبرى. وهكذا ظهر اتفاق اوسلو من وراء ظهر العالم الذي انحرف بعيدا عن طريق السلام الصحيح ووضع كل الامور موضع المساءلة من جديد ثم ادخل القضية في متاهة لم تخرج منها حتى الآن. ولم تستطع الامم المتحدة ولا الدول الممثلة فيها أن تدافع عن قراريها البسيطين والواضحين وظلت القضية تتأرجح هنا وهناك من دون ان يفكر أحد في العودة الى الشرعية الدولية واحترامها بينما يكثر الحديث عن العودة الى القانون والنظام. والواقع أن العالم يقف على حافة بالغة الخطورة بسبب ميول الهيمنة التي تزاولها الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة واختفاء الدور الفاعل للاتحاد السوفياتي السابق. ومهما تكن طبيعة الادارة الامريكية في ظل هذا الحزب او ذاك فان انفراد دولة واحدة بالسلطة او الفاعلية الدولية سوف يؤدي الى نوع من الديكتاتورية تفتح الطريق امام عصر من التدهور والمظالم اوسع واخطر كثيرا من الديكتاتوريات المحدودة التي عرفتها الانظمة البشرية والتي بلغت مداها ابان الحكم النازي. لقد غضب الاتحاد الاوربي والولايات المتحدة والكثير من الدول عند فوز السياسي النمساوي اليميني هايدر خوفا من تفشي اليمين المتطرف فى دولة نبت فيها من قبل نزوع ديكتاتوري ادى الى سيادة النازية وايديولوجيتها في كل ما دعي حينذاك بالرايخ. اليس من الاولى الخوف من نزعات التسلط الدولية التي تمارسها الادارة الامريكية والتي برزت في التدخل العسكري في اكثر من موقع وبعيدا عن دائرة الامم المتحدة اكتفاء بموافقات بعض الدول الكبرى، الامر الذي لم يختلف كثيرا عن التحالفات القديمة بين الدول قبل ان تنشأ الامم المتحدة والتي ادت الى الحربين العالميتين والكوارث التي الحقتهما بالبشرية. ان الموقف المنحاز الذي تقفه الولايات المتحدة بالنسبة للقضية الفلسطينية لا يمكن تبريره. قد يكون في التدخل في البوسنة او الهرسك او كوسوفو او حتى في رد الاحتلال العراقي للكويت تبريرات مقبولة ولكن ما الذي يمكن ان تبرره الادارة الامريكية في انحيازها المطلق لاسرائيل وفي تأييدها او صمتها على الجرائم البشعة التي ترتكبها هذه الدولة ضد المجتمع الذي اغتصبت ارضه عنوة ومن دون وجه حق وفقا للمفاهيم المعاصرة. وهل يجوز ان تدار سياسة العالم حسب قدرات ومهارات مجموعات الضغط داخل الولايات المتحدة حتى لو كانت مجانبة للحق والعدالة او مؤدية الى قلاقل كبرى او صغرى في عالمنا المليء بالمشاكل؟

هناك مؤشرات عديدة على ان العالم يستشعر خطر الديكتاتورية الدولية الذي يتكون في السياسة الامريكية، وقد رأينا تمردا على السيادة الدولية للولايات المتحدة في اكثر من مناسبة وليس آخرها خرق حظر الطيران الى العراق الذي تسابقت اليه عدة دول في مقدمتها جمهورية روسيا الاتحادية وفرنسا بعد ان فقد الحصار الدولي مغزاه واصبح عقابا لشعب ليس مسؤولا في الواقع عن كل ما حدث. والقضية الفلسطينية مستعصية على الابتلاع والنسيان وستظل تؤرق الضمير العالمي الى ان تجد حلا عادلا، وهي بوضعها الحالي علامة على فساد النظام الدولي ونذير بأن العالم لم يزل على شفا هاوية حرب كبرى. فمثل هذا العالم المضطرب الذي يعمى عن الحقائق الصارخة من الممكن ان يشتعل لأبسط الاسباب طالما أنه عالم يفتقد الى القانون والعدالة وأن قانون القوة هو الذي يحكمه. واذا كانت قمة شرم الشيخ تقصد اساسا وقف المذبحة التي تمارسها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني من دون ان يفصح احد عن هذه الحقيقة، فانه ينبغي منذ الآن مواجهة المشكلة من جذورها بعيدا عن النفاق وازدواجية النظر والصخب اللفظي لتغطية الحقيقة واخفائها. لقد قامت اسرائيل على اشلاء شعب وما زالت تمارس اغتصابها كل يوم، ومثل هذا الوضع لا يمكن ان يستمر مهما تكن القوة التي تسانده. واذا كان الفلسطينيون يوافقون على التعايش مع هذه الدولة فانه ينبغي ان تحل المشكلة من جذورها وفقا لقراري الامم المتحدة المتجاهلين واللذين يمكن ان يعيدا الامور الى نصابها.

لقد قام المشروع الصهيوني في ظل ظروف مختلفة تماما تساندها تيارات القومية ومؤامرات السياسة الاستعمارية القديمة واليوم لم تعد الامور كذلك وعرفت كل الدول تقريبا المجتمعات المتعددة الاعراق والديانات وصار من العار على انسان العصر الحديث ان ينغلق او يتعصب او يتباهى عنصريا او حتى فكريا. ومهما يطل عناد قادة الحركة الصهيونية وتجاهلهم لقوانين العصر فان فلسطين سوف تكون دولة ديمقراطية متعددة الاعراق والديانات وسوف يكون ممكنا ان يتعايش الجميع متساوين في الحقوق والواجبات.

ان الثقافة الاسرائيلية السائدة مفارقة للمنطق وللعصر، وما زالت الاوهام والاساطير تغذي نزعات التمييز العنصري والاحقاد وتدفع السذج من الاسرائيليين الى حياة خائبة شديدة القلق وبالغة الخطر من دون اي جدوى او معنى. وعلى الرغم من تفاهة النتائج التي اسفرت عنها قمة شرم الشيخ، فان العالم صار مسؤولا عن اي جنون من الممكن ان ترتكبه قيادة تفتقد الى بوصلة حقيقية تتعرف بها على طريق السلامة الصحيحة.