تقهقر السياسة الخارجية الأميركية.. بحثا عن مبادئ جديدة

TT

مع بقاء اكثر من اسبوعين بقليل على اجراء الانتخابات الرئاسية الاميركية، يبدو ان العالم الخارجي لا يعير هذا الحدث كبير التفات. ولا يبدي الجمهور الاميركي بدوره سوى قدر قليل من الاهتمام بمسائل السياسة الخارجية. ويتفق المحللون على ان تلك السياسة لم تحتل مكانة دنيا على سلم اولويات اي حملة رئاسية اميركية من قبل خلال الاعوام الستين الماضية. فحتى «أزمة النفط» الاخيرة والتغيير الذي جرى داخل صربيا وارتفاع حدة التوتر في الشرق الاوسط يبدو انها لم تدفع الاميركي العادي الى بذل مزيد من الاهتمام بما يجري حول العالم. وتشير استطلاعات الرأي الى ان قلة قليلة من الناخبين الاميركيين تدلي بأصواتها بحسب مواقف المرشحين الرئاسيين ازاء قضايا السياسات الخارجية. وتجلت قلة الاهتمام بالسياسة الخارجية في الحوار المتلفز الذي عقد بين نائب الرئيس آل غور والمرشح الجمهوري جورج بوش. فقد استغرق الحوار 270 دقيقة، الا ان مسائل السياسة الخارجية لم تستغرق اكثر من 12 دقيقة. وحتى خلال هذه المدة الزمنية القصيرة لم يطرح اي من المرشحين رؤية متماسكة لما ينبغي ان يكون عليه دور الولايات المتحدة في الحلبة الدولية خلال الاعوام الاربعة المقبلة. فماذا يمكن ان يستقرئه المعتقدون بأهمية الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، «القوة العظمى» الاخيرة في العالم، لكل الاطراف العالمية؟

اول ما يمكن استقراؤه ان الولايات المتحدة تتجه الآن نحو مسار انعزالي. اذ اوضح المرشحان، اللذان يعكسان آراء الناخبين، انهما سيقللان في حال انتخابهما من انخراط الولايات المتحدة في مناطق النزاعات الى اكبر عدد ممكن. وهذا لا يعني ان الولايات المتحدة تميل اليوم نحو استراتيجية «اميركا القلعة» التي كانت ممارسة قبل اندلاع الحرب العالمية الاولى. فالدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في التجارة العالمية واعتمادها الراهن على استيراد الطاقة وتضاعف اعداد خصوم اميركا المتوقعين يجعل من الالتزام بسياسة انعزال تام عما يجري في العالم سياسة مستحيلة. مع ذلك، فقد اوضح المرشحان ان الاستراتيجية التي سيتبعانها تنطلق من نسخة معدلة لما يسمى بمبدأ مونرو. وينص هذا المبدأ الذي وضعه الرئيس جيمس مونرو في القرن التاسع عشر على ان الولايات المتحدة تعتبر العالم الغربي محيطا امنيا لها، كما تعد اي تهديد خارجي لأي جزء من الاميركتين تهديدا لمصالحها القومية. وببساطة يحذر مبدأ مونرو القوى العظمى من مغبة الاقتراب مما تنظر اليه الولايات المتحدة على انه نطاقها الامني.

وطرح بوش خلال الحوار المتلفز رؤية اضيق لمبدأ مونرو، وقال انه لن يستخدم القوة الا في حال تعرض الاراضي الاميركية نفسها للخطر. وبعدها اضاف مستدركا انه سينظر في اللجوء الى التدخل العسكري في حال تعرض المصالح القومية الحيوية للخطر، كمنطقة الشرق الاوسط مثلا. وردد غور اصداء ما قاله بوش، ولكنه اضفى بعض اللمسات التجميلية ازاء التدخل في اماكن مثل البوسنة وكوسوفو. اما النقطة الثانية التي لا بد من التأكيد عليها في هذا المقام، فهي نية المرشحين في تخصيص مزيد من المصادر المالية لتوفير انظمة دفاعية مقابل نظيرتها المستخدمة في اعمال الهجوم. ورغم عيوبها الفنية وكلفة تركيبها الضخمة، يبدو ان مشروع الدرع الواقي من الصواريخ يدعمه كل من المرشحين. ويهدف هذا المشروع الى حماية الاراضي الاميركية من اي هجوم بالستي عليها، مما يقلل من اضطرار القوات الاميركية الى الالتزام بالدفاع عن اراضي حلفائها، خاصة في اوروبا.

ولا يخفي محللو الدفاع الاميركيون اعتقادهم بأن اميركا لن تنخرط في اي نزاع عسكري واسع النطاق، الا في حال تعرضها لتهديدات مباشرة. وهذا ما حدث في الحربين العالميتين، فلو ان المانيا لم تقدم على عملها العدواني ضد الولايات المتحدة، مثل اغراق الباخرة الاميركية في الحرب العالمية الأولى، لكان من الصعب على واشنطن تحشيد الرأي العام للانخراط في الحرب الى جانب بريطانيا وفرنسا. اما في الحرب العالمية الثانية فقد انجرت الولايات المتحدة الى الحرب بعد هجوم اليابان، احدى دول المحور آنذاك الى جانب المانيا وايطاليا، وتدميرها اضخم قواعد البحرية الاميركية في ميناء بيرل هاربر.

ولو ان الدرع المضاد للصواريخ عكس مناعة الولايات المتحدة ضد الهجوم عليها بالصواريخ البالستية مما يوصف «بالدول المنبوذة»، فسيجد زعماء واشنطن ان من الصعب اغراء الاميركيين على دعم الانخراط في الحروب الاجنبية.

وتؤكد ثالث النقاط التي برزت خلال حوار المرشحين على النقطتين السابقتين. اذ أشار المرشحان الى انهما سيزيدان من النفقات المخصصة لشؤون الدفاع. بيد ان قراءة متفحصة للأرقام المطروحة تكشف عن صورة مختلفة. فمعظم النفقات الاضافية ستصب إما في ابحاث ومشاريع تطوير الدرع المضاد للصواريخ او لرفع مرتبات الموظفين. كما يدرك العارفون بالشؤون العسكرية ان ارسال جندي واحد الى ساحة المعركة، يتطلب من الجيش توفير ثلاثة اشخاص على الاقل مقابله لتوفير خدمات الاسناد والاسعاف وغيرها. وحسب الميزانية العسكرية التي يطرحها كل من آل غور وبوش فان القدرة القتالية الفعلية لأميركا عام 2010 ستكون اقل على نحو معتبر مما كانت عليه عام 1990.

وقد استطاعت الولايات المتحدة في عام 1990 وعام 1991 تشكيل قوة مثيرة للاعجاب قوامها نصف مليون من الجنود رفيعي التدريب وشديدي التسلح خلال اسابيع فحسب. ووفقا للتصورات المطروحة التي يدعمها آل غور وبوش، لن يغدو بمقدور الولايات المتحدة تشكيل ازيد من ربع تلك القوات بعد عشرة اعوام من الآن.

اما النقطة الرابعة التي تستشف من هذا الحوار، فهي ان الطرفين يبدو انهما تحولا الى اعتناق ما يمكن وصفه بـمبدأ باول، نسبة الى رئيس اركان الجيش الاميركي السابق الجنرال كولن باول الذي قد يصبح وزير خارجية لإدارة بوش. ويرمي هذا المبدأ، الذي يتمحور حول التحوط المفرط، الى تجنب استخدام القوة الا في حالات استثنائية جدا. ويعكس مبدأ باول هذا القول المأثور عن الامبراطور ماركوس اورليوس من ان القادة الناجحين لا يرسلون جيوشهم الى ساحات المعارك ابدا. وقد يكون لمبدأ باول هذا معنى في عالم يتصرف كل زعمائه وكأنهم لاعبو شطرنج، اي يفهم كل منهم اي خطوة تصدر عن اي منهم في لعبة القوة. غير ان العالم يكتظ بقادة على شاكلة لاعبي البوكر المستعدين للذهاب الى القتال لسفك الدماء. ولا ينسحب لاعبو البوكر هؤلاء من اللعبة الا بعد دعوتهم لتنفيذ تهديداتهم بالفعل، وقد يعني ذلك لكمهم على اسنانهم، فهم عاجزون ببساطة عن فهم قواعد مبدأ باول هذا.

وقد تقود هذه العقيدة العسكرية الجديدة التي تتبلور مع الوقت داخل الولايات المتحدة الى وضع يندم فيه حتى ناقدو ما يسمى بـ«شرطي العالم» على غياب اية آلية للدفاع عن القانون الدولي من خلال القوة متى كان ذلك ضروريا.

في المقابل، فان الاتحاد الاوروبي، الذي يراقب تطور تلك العقيدة العسكرية داخل اميركا، يحاول تطوير قوة تدخل مستقلة خاصة به تكمل اعمال حلف الناتو. غير ان تشكيل وتطوير واختبار هذه القوة قد يستغرق عقودا. من بين السيناريوهات الاخرى تطوير قوة عسكرية مستقلة تحت قيادة الامم المتحدة. وقد قدم توني بلير رئيس الوزراء البريطاني مقترحات حول بناء مركز تدريب خاص لتلك القوات داخل بريطانيا. بيد انه حتى مثل هذه القوة لن يكون بمقدورها الرد ضد اي تهديد كبير. وربما يكون وجودها مفيدا للتصدي لبعض العمليات الصغيرة، خاصة الدول الصغيرة التي مزقتها الحروب في افريقيا. بيد انها لن ترقى الى مستويات الخصوم الاشداء في النزاعات الاوسع.

وكل هذا قد يؤدي الى تجديد مبدأ نيكسون، وان كان في شكل جديد. اذ ان مبدأ نيكسون، الذي وضع اوائل السبعينات، ينطلق من افتراض ان الولايات المتحدة ليست في وضع يمكنها من الدفاع عن كل حلفائها حول العالم في كل الاوقات. ومن هنا جاءت اقتراحات تشكيل مجموعات دفاعية اقليمية تدعمها اميركا سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا وتكنولوجيا.

وبينما بدأت العقيدة الدفاعية الاميركية بالتحول، بات من اللازم لحلفاء الولايات المتحدة في كل مكان اعادة التفكير في عقائدهم العسكرية في ظل نظام معولم سريع التحول.