تجنب الأخطاء.. هل هو ممكن؟

TT

قبل باراك في شرم الشيخ ما رفضه في باريس. واذا التزم بما وعد به فلربما تعود الاجواء مواتية بعد اسبوعين كما سمعنا الرئيس كلينتون يقول وهو يعلن الاتفاق لاستئناف مسيرة السلام الذي يجب ان يكون عادلا ودائما كما نقول منذ نوفمبر 1967 او لا يكون.

ولا ندري على وجه التحقيق ما اذا كانت الاوضاع لدى نشر هذا المقال قد سارت في هذا الاتجاه او ذاك، لأن الامور في المنطقة تتقلب بسرعة. سمعت السفير الاسرائيلي آفي بنزر يقول للتلفزيون الاسباني ان الثقة مفقودة، وهذه هي النقطة الوحيدة التي يلتقي فيها الطرفان الفلسطيني والاسرائيلي.

ومهما كانت الاحوال فان المعضلة تكمن في ان اسرائيل مهما تغيرت القيادات لم تحدد قط اي طراز من السلام تريده لنفسها وللمنطقة. ويبقى دائما الشارع الاسرائيلي هو المتحكم في قرار المفاوض الاسرائيلي الذي يجلس الى الطاولة وفي ذهنة فقط القرار القريب المدى، من دون ان يستطيع الثبات في خط بعيد المدى.

وثبت حتى الآن ان ما يحرك السياسة الاسرائيلية هو ما يفكر به منظرو الرؤية الرومانسية الحالمة بالسيطرة والاقصاء، والمسلحة فقط بالثقة القوية بالنفس وبالقدرة على التمويه على العالم، وبتحليل يقول ان العرب سيتعودون وعلى اسرائيل ان تتمسك بموقفها. فقد رأينا شمعون بيريز الذي ملأ الدنيا بتحليلاته التي كانت تشع نظرة رصينة لقضايا السلام يطمع في بضعة اصوات من اليمين حينما كان مرشحا امام نتنياهو، فقصف جنوب لبنان وحصد الابرياء، فلا هو فاز بالمقعد ولا افكاره الحالمة عن مسلسل السلام اثبتت مصداقيتها.

لم يكن حلما خادعا ان تظهر تباشير مدريد ثم اوسلو موجهة الخواطر الى افق ايجابي يمكن من تحقيق الاعتراف المتبادل والمضي في رسم خريطة السلام. ولكن ظهر جليا ان الطرف الاسرائيلي لم يف بما التزم به. وهكذا فمهما كانت الاحوال غداً وبعد غد فان المعركة مع اسرائيل ستطول الى ان تقبل السلام، اي ان تتكيف مع الواقع وتقرر انتماءها الى المنطقة.

وليس هذا اكتشافا، فان الخلط الكبير بين الطرح السياسي والمرجعية الدينية في السلوك الاسرائيلي يعقد الامور. فبعد طول الاخذ والرد في مسائل تتعلق بالامن والمستوطنات وعودة اللاجئين والمياه، وغير ذلك من الجوانب العملية في الملف الفلسطيني ـ الاسرائيلي، ظهرت منذ مدة قريبة جدا مفاجأة تمثلت في مطالبة الجانب الاسرائيلي بالسيادة على باحة المسجد الاقصى، مما يصب في التوجه الذي تدعو اليه فئة من المتطرفين اليهود. وجرت اسرائيل القيادة الاميركية الى تبني هذا الطرح وأريد في اجواء كامب ديفيد ان يفهم العالم ان اسرائيل قدمت كل ما في امكانها من التنازلات وان عرفات لم يتقدم خطوة من جانبه.

وهكذا ستظل القضية تتأرجح على الدوام ما لم تتغير قواعد التعامل بين اسرائيل والشرعية الدولية. وسيظل العالم اجمع ينظر الى المسألة من زاوية الانصاف، واسرائيل والولايات المتحدة تنظران من زاوية فرض الامر الواقع. انهما الآن على عجلة من امرهما لفرض الامر الواقع لأن الرئيس كلينتون امامه بضعة اسابيع ليغادر البيت الابيض، وايهود باراك امامه بضعة ايام ليمثل امام الكنيست وهو في موقف ضعيف ويريد ان يتعزز بشارون لكي يحافظ على مركزه في الحكم. وفي النهاية يتكرر ما حدث دائما وهو ان اسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تسيرها وتحكمها اغلبية عددية تأتمر بما تجرها اليه الاقليات. اذ يوجد باراك ـ كما كان الحال مع رابين ـ بين نارين: التحالف مع الاحزاب الصغيرة ليحكم، او التحالف مع شارون ليستمر.

ان مصير شعب بكامله، هو الشعب الفلسطيني، معلق بمزاج الشارع الاسرائيلي وبرضوخ الحزب الحاكم لهذا المزاج. ولكي لا يبقى الوضع هكذا يجب ان يكون الشعب الفلسطيني في موقع يمكنه من الصمود في المقاومة وان يحسن موازين القوى في التفاوض والمقاومة معا.

ومن العوامل المساعدة على الاتجاه في هذا السبيل الحفاظ على المكاسب التي تحققت الآن من حيث التحام صفوف الشعب الفلسطيني في انتفاضة القدس، ومن حيث اليقظة التي سرت في الشارع العربي، ومن حيث اقتناع الحكومات بضرورة التخلي عن الارتخاء الذي وقع منذ مدة، ومن حيث اكتساب درجة عالية من التفهم من لدن الرأي العام الدولي الذي يمثله تحرك الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي نحو شرم الشيخ.

هذه النتائج اتت بفضل تضحيات الشعب الفلسطيني خلال الاسبوعين الماضيين، استمرارا لمسيرة طويلة تزيد على سبعين عاما، ولكن ايضا بفضل الوضوح الذي اتسمت به المسيرة السياسية العربية في السنين الاخيرة، ولهذا يجب التنبيه الى عدم التفريط في المكاسب التي حصلت وذلك بالذات بتجنب الاخطاء التي جعلتنا حتى سنين قليلة اسوأ مدافعين عن اوضح قضية.

ليس من المعقول ان يستمر هذا التجني على المواقف الرسمية العربية والاحباط الشنيع الذي يسود ونحن على عتبة مؤتمر القمة العربية غدا. ليس من المعقول ونحن نتمكن لأول مرة بعد عقد من الزمان من عقد قمة عربية شاملة ان نذهب الى هذا الموعد ونحن فريسة الشك واليأس، وان ننقل للفلسطينيين في الاراضي المحتلة الشعور بأنه لا شيء ينتظر من القمة.

ولكي لا تتكرر الاخطاء يجب ان تكون القمة فرصة لرص الصفوف، لا ان نجتمع لنقول للفلسطينيين مرة اخرى «خير لكم ان تنتحروا». يجب ان تكف الحكومات العربية عن استعمال الفلسطينيين كزبناء لترويج سياساتها، يجب ان تكون القمة منطلقا جديدا للمسيرة العربية الى جانب الشعب الفلسطيني، والا نعود الى تكرار انتاج زمن الاخطاء بأن يوضع الفلسطينيون في مواجهة مع عمان وبيروت ونكتفي في باقي العواصم بترديد نداءات الصمود «الى آخر فلسطيني».

هناك مشروع عربي للسلام اخذ يحظى بتفهم العالم. منذ مبادرة الملك فهد الى اعلان الدولة في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر هناك خط تبين انه يمكننا من اكتساب موقع في الرأي العام العالمي الذي يجب ان ندرك انه ليس معنا وان مزاجه مع اسرائيل وانه يصغي لما تقوله تل ابيب عن ثلاثة من الجنود عند حزب الله اكثر مما يكترث بدماء المئات من اطفالنا.

يجب ان نسقط الاصنام التي اقمناها بشعاراتنا ونتزود بمقومات الصمود والتصدي لا ان نغرغر الكلام امام شاشات التلفزيون. اسرائيل هي الخصم وليست عاصمة عربية قلبها مع الفلسطينيين وعينها الحذرة على الشقيق الذي يتربص بها.

للمفاوض الفلسطيني سلاحه الذي يجب ان يستعمله لانجاز مكاسب لفائدة القضية وللشارع الفلسطيني، وايضا العربي، سلاحه الذي يؤكد به الصمود والرفض.