حرب إعلامية حول الانتفاضة

TT

اثر اجتماع كامب ديفيد الفاشل هذا الصيف شن الجنرال باراك حرباً اعلامية ذات زخم، معتمداً على صياغات مُعدة سلفاً قوامها ان القيادة الفلسطينية خبيرة في تضييع الفرص (رفض قرار التقسيم، ورفض كامب ديفيد الاول، ورفض العرض في كامب ديفيد الاخير). واكثر باراك من القول انه عرض تسعين في المائة من الضفة على القيادة الفلسطينية، وان هذا افضل عرض للان ولن يتكرر من غيره لاحقاً. هذا السخاء سُوق في العالم بسرعة وتركيز مع غياب رد فلسطيني عالمي حول العرض وتفاصيله، واصبح الجنرال يردد لأسابيع انه كسب الجولة وحرض العالم، ثم اخذ يهدد القيادة الفلسطينية بأن تعنتها برفض العرض سيجر عليها الويلات (هذا التهديد لم يحسن استغلاله فلسطينياً)، وشاركته الادارة الاميركية في موسم التهديد الذي تحول بسرعة الى استفزاز مخطط اسرائيلياً واميركياً بارسال شارون للحرم، وسبق ذلك تمركز القوات استعداداً للمواجهة التي انطلقت بالفعل، وكان يمكن تجنبها لو نجح الفلسطينيون اعلامياً بعد كامب ديفيد في تنفيس خطة باراك، وتلك قصة اخرى.

في اجتماع شرم الشيخ هذا الاسبوع بعد عشرين يوماً من المواجهات تجلت مواصفات الحرب الاعلامية في عدة مظاهر اولها الكلمات المستعملة في البيان الصادر عن القمة، وظهرت المواصفات في حجم ونوعية الوفد الاسرائيلي، وفي اصرار الجنرال على قيادة اميركية للجنة التحقيق، وفي مظاهر اخرى عديدة. وفي اسابيع الانتفاضة الثلاثة برزت ملامح جديدة تحتاج لمراجعات استعداداً لجولات قادمة كون المعارك الاعلامية تدار طوال الوقت وفي كل الازمنة، ولكن بأنماط ودرجات متفاوتة. اذا نظرنا الى مصطلحات البيان الصادر عن القمة سنجد انها تتناغم مع الموسيقى الاسرائيلية الى درجة ان ذكرها يعطي التأييد للرؤية الاسرائيلية التي زرعت في اذهان الناس عبر العالم. يدعو البيان لوقف العنف، ويطالب بوقف اطلاق النار، واحترام الهدنة، والابتعاد عن التحريض، وغير ذلك... «العنف» هو اصطلاح اسرائيلي روج عالمياً لوصف الانتفاضة الحالية، ولاينطبق المفهوم في اذهان البشر على استعمال الدبابات او الطائرات الاسرائيلية ضد الفلسطينيين. مدلول الاستعمال اذاً اوضح من الشرح. «وقف اطلاق النار» اصطلاح يستعمل عادة اثناء واثر الحرب بين جيوش نظامية. طوال الانتفاضة كانت اسرائيل تردد مصطلحات مثل، الرد على النيران، ضحايا تقاطع النيران، القناصة الفلسطينيون، المسلحين بملابس مدنية، رجال الشرطة الفلسطينية يحتمون خلف الاطفال... وغير ذلك مما اوصل قمة شرم الشيخ الى اعتماد صفات تؤكد ان الحرب الدائرة بين جيشين متعادلين بحاجة الى «هدنة» و«وقف اطلاق النار». ووصلت البجاحة الاسرائيلية الى درجة الاستفادة من حجم «ضحايا العنف» لانها نجحت في عدم التمييز بين الضحايا اذ قال معظم الاعلام الغربي مثلاً: مائة قتيل وآلاف الجرحى من جراء العنف بين الفلسطينيين والاسرائيليين. بعض وسائل الاعلام كانت تضيف ان «معظم الضحايا بين الفلسطينيين». نفس الشيء ينطبق على مصطلح «وقف التحريض» الذي ورد في البيان، اذ كانت الماكنة الاعلامية الاسرائيلية والصهيونية عبر العالم تدعي ان الاذاعة والتلفزيون الفلسطيني وبقية الاعلام والخطب في المساجد تحرض ضد اليهود، الى درجة ان متحدثا رسميا اسرائيليا برر قصف الاذاعة الفلسطينية بصواريخ من طائرات عمودية كعمل لوقف التحريض وحماية الارواح. المصطلحات الاخرى في البيان الختامي لقمة شرم الشيخ كانت توازي بين الطرفين في المسؤولية وما هو مطلوب عمله... حتى مصطلح مثل «يعاد فتح مطار غزة» كما ورد في البيان يمكن ان يفهم منه ايضاً ان الرئيس عرفات هو الذي اغلق المطار وعليه فتحه... اما اصرار الجنرال على تولى اميركي لقيادة لجنة التحقيق فيغني عن اشعار من التغزل الاسرائيلي بنزاهة الاميركان وحبهم للعدالة وايمان اسرائيل بهم، بينما الطرف الآخر يريد قيادة اوروبية ودولية لتلك اللجنة ويحرق اعلام اميركا في الشوارع... لا نتحدث هنا عن القمة سياسياً، ولكن عن نتائج الحرب الاعلامية على القمة وعبر العالم غير العربي. لقد جلب الجنرال معه الى شرم الشيخ عشرة متحدثين رسميين من الوزن الثقيل واصحاب الخبرة ويجمعون بينهم اللغات الانجليزية والعربية والفرنسية والايطالية والاسبانية والالمانية لاستغلال مكثف لتواجد الاعلام العالمي في منتجع سياحي صغير، وحملوا معهم اشرطة لاستعمال التلفزيونات بها لقطات لأطفال فلسطينيين يتدربون في مخيمات صيفية وينشدون قصائد لأكل لحم عدوهم، وخطب في المساجد تطالب بقتل اليهود اينما كانوا، وشاب فلسطيني لطخ يديه بدماء الجنديين في رام الله، وكان الجنرال قد زود جنوده بكاميرات لالتقاط صور فلسطينيين يطلقون النار، كما ارسلت اسرائيل اعلاميين الى بلدان اوروبا لتوضيح الصورة للمؤسسات الاعلامية.

الهدف للحرب الاعلامية واضح، اسرائيل تريد الغاء الصورة القديمة حيث جيشها القوي يقتل الاطفال والمدنيين، واظهار هذه الانتفاضة كلقاء متعادل بين جيشين احدهما اذكى من الاخر. الجانب الفلسطيني يريد اثبات العكس امام العالم سعياً لكسب العطف والدعم والتأييد السياسي. النتيجة المتغيرة في الزمان والمكان تحكم فيها اسلوب كل طرف والادوات المستعملة، والتخطيط المسبق، وهذا الاخير ثبت انه معدوم هذه المرة لدى الجانب الفلسطيني. ويشار بالمقابل الى ان الجنرال كان من البداية يريد اما سلاماً على مقاسه ومزاجه الخاص، او نسف العملية السلمية، التي عارضها اصلاً من ايام رابين، ولكن مع تحميل القيادة الفلسطينية مسؤولية هذا الفشل، وذلك عبر فنون الاعلام المخطط تماماً والمستفيد من اخطاء الطرف الآخر دون ان يعني ذلك نجاحا دائما طبعاً.

علينا في البداية ملاحظة ان جهازي الاعلام الفلسطيني والاسرائيلي كل منهما يعمل لكسب العالم ويتجاهل تماماً كسب الطرف الآخر، ولم تعد هناك محاولة فلسطينية واحدة لكسب الاسرائيليين ولا محاولة اسرائيلية لكسب الفلسطينيين، فكل طرف يعتبر هذه المعركة في تلك الساحة خاسرة سلفاً. لكن اسرائيل تحاول منذ هذا الصيف كسب الجبهة العربية، او التأثير عليها بينما الطرف الفلسطيني يبتعد عن اليهودية العالمية صاحبة التأثير القوي في مواطنها وعلى اسرائيل... واذا اعتبرنا الاعلام ضمن اهتمامات المتعاطفين ايضاً فإن بعض هؤلاء في اوروبا يدفعون باليهود للهجرة الى فلسطين، وكان الاجدر لو جمعوا دعماً او صاموا يوماً، او تظاهروا ضد حكومة ذلك البلد الاوروبي مطالبين بالضغط على اسرائيل او مقاطعتها. سبب ذلك التخبط في الدعم هو التقصير الاعلامي الفلسطيني في ساحة المؤيدين، او بالاحرى انعدام المخطط الاعلامي واضح المعالم بحيث تتحرك كل ساحة ضمن الافضل. قبل الخوض في مخطط اعلامي على ساحات العالم نلاحظ غياب هذا المخطط في الساحة الفلسطينية الداخلية الآن بعكس ما ساد ايام الانتفاضة الاولى. كمثال على ذلك يشار الى احد البرلمانيين الفلسطينيين كثير الظهور على التلفزيونات، أي انه صاحب خبرة، اذ قال يوم اعلان بيان شرم الشيخ رداً على سؤال كيف يمكن احلال الهدوء: اذا سحبت اسرائيل قواتها عن مناطق الصدام مع الشعب الفلسطيني ستتوقف الاحداث... يمكن ان تستمر يومين او ثلاثة اذا استشهد بعض الجرحى ولكن الامور ستهدأ. السؤال الثاني له كان: لماذا كل هذه الاحداث، ما هو الهدف الفلسطيني المرتجى منها؟ قال خبيرنا الاعلامي: الانتفاضة تحولت الى حرب استقلال ولن تتوقف... هكذا اذاً يصبح الاستنتاج امام المشاهد ان انسحاب الجيش الاسرائيلي سيتبعه تقدم فلسطيني حتى البحر... تماماً كما يقول باراك. انعدام التخطيط الاعلامي الفلسطيني اهدر ساعات من البث التلفزيوني الذي اتيح للمتحدثين الفلسطينيين على شاشات العالم. الحل قطعاً ليس منع الناس من الحديث، بل ان العاديين من الجمهور هم الافضل قولاً مقارنة مع عشرات الشخصيات التي تتحرك لاحتلال الشاشات... لكن الحل هو وضع مخطط شامل، واهداف عامة، ثم مخطط يومي في فترات الازمات تشرف عليه ادارة مركزية توزع تعليمات ذلك اليوم، وتجددها حسب التطورات لتوزع فوراً على كل من يتحدث للمحطات والاعلام، وعلى السفارات الفلسطينية عبر العالم (الكثير منهم تحدثوا دون المستوى المتوسط)... المرشح الاول لوضع المخطط والاشراف عليه هو حتماً الدكتورة حنان عشراوي تلك الجندية التي تتغاضى عن كل المنغصات الذاتية وتقفز الى الساحة كلما استدعى الامر.