ما قاله ديغول لآيزنهاور

TT

كل كائن قادر على ان يكون قاتلاً بدم بارد، قادر ايضاً على ان يكون اي شيء آخر. فهو من اجل تغطية الجريمة، يمهر في الكذب والمراوغة والنفاق والنكث. ومن اجل ان يستكمل ارييل شارون مذابحه، يستخدم في الرد على الطلب الاميركي، كلمات مزدوجة المعاني، تحتمل القبول والتسويف معاً، وفي النهاية تقدم للجزار وقتاً اضافياً لاجتياح المخيمات والاحياء القديمة وتفتيت بيوت الطين.

العام 1982 كذب ارييل شارون على سيده مناحم بيغن. وكذب في بيروت على الوسيط الاميركي فيليب حبيب. وماطل في تنفيذ انذار وجهه رونالد ريغان، وقبل ان ينسحب اخيراً ارتكب مجزرة صبرا وشاتيلا. انه لن يوقف عمليات القتل بهذه البساطة او بهذه السهولة. لذلك وعد جورج بوش بأن «يسرع في انهاء العملية».

يدرك ارييل شارون ان حياته السياسية قد انتهت. ولذلك لن يضيع الفرصة الاخيرة من دون مجزرة تنسي الناس جميع المجازر الاخرى التي سطر بها سيرته. فهو من ناحية يوسع الائتلاف الحكومي باحزاب تقف الى يمينه ومن ناحية يوسع الاجتياح بعيداً عن اعين الاعلام بقدر ما يستطيع. ففيما يتبع المراسلون دباباته الى قلب المدن، يرسل القتلة وفرق الاغتيال الى القرى والارياف، حيث يظن ان مسؤولي العمليات من «حماس» و«الجهاد» يختبئون.

وفيما يتصرف شارون على انه في ايامه السياسية الاخيرة، يتصرف ياسر عرفات على انه في اوج حياته السياسية. فالتظاهرة التي سارت في دمشق، العاصمة التي ابعدته ذات يوم، رفعت صوره الى جانب صور الرئيس بشار الاسد. ومن الرباط الى بيروت، ترفع صورته كرمز، فيما يعلن الرئيس الاميركي ان عرفات «لم يعد مهما» وانه لا بد من التفاوض مع زعماء آخرين. اما الوزير كولن باول فيقول انه «يدرس قرار اللقاء» معه. والسبب ان عرفات رفض حتى الآن جميع «العروض» التي قدمها الاميركيون اليه. وقد قال بوش ان عرفات «لم يعد مؤثراً» بعدما رفض الزعيم الفلسطيني القبول بالشروط التي حملها اليه الجنرال زيني وهو في عزلته.

الحقيقة يمكن ان يجدها بوش في الصحافة الاسرائيلية نفسها. فهي لا ترى ان عرفات «لم يعد مؤثراً» بل على العكس تقول انه الرجل الذي قضى على اكبر عدد من رؤساء الوزراء الاسرائيليين وظل واقفاً. هم يتغيرون بسبب العجز عن الوصول الى حل وهو باق. وكلما خطر للاسرائيليين وللعالم انه انتهى وقضي الامر خرج من محنته اكثر قوة من قبل. وكلما طرح الاميركيون «بديلاً» سارعوا هم، كالعادة، الى فضح المسألة. ويكتب جيم هوغلاند في «الواشنطن بوست» مقالاً سيئ النية عن العسكريين الفلسطينيين الذين يقول ان اميركا كانت تفكر بهم لخلافة عرفات، وانها سعت «لتلميع صورهم» من اجل ذلك. وواضح ان الهدف من المقال ونشر الاسماء هو ذر الخلاف ضمن القيادة الفلسطينية والتشويش على اوضاع القياديين في هذه المرحلة وتوزيع الشبهات مجاناً.

لقد الحق جورج بوش تحذيره لشارون «بالخروج من دون ابطاء» بتحذير من كوندوليسا رايس «بوجوب الانسحاب الآن وليس غدا». وفي هذه الاثناء تبدأ رحله كولن باول الى المنطقة وهو لم يقرر بعد ما اذا كان سيلتقي عرفات ام لا، وكل ذلك كان يمكن ان يستبدل، امام الفظاعة الشارونية، بانذار من ثلاثة اسطر على طريقة ايزنهاور: يقف اطلاق النار في الساعة السادسة من هذا المساء، والا...، كان ذلك زمن ايزنهاور الذي قال له شارل ديغول ذات مرة: «لقد ارتكبت اخطاء كثيرة في حياتي، لكن لم يكن بينها ابداً التعرض لعنفوان شعب او لكرامة زعيمه».