كفى للعنف.. كفى لتجاهل عرفات

TT

نشاطر الرئيس بوش في ما ردده في كلمته الاخيرة: كفى عنفا، كفى عنفا، ونقول له ايضا كفى تعنيفا وتهجما على الرئيس عرفات لان ذلك يعتبر تعضيدا لشارون في عزمه على قتله، في الوقت الذي كان العالم ولم يزل يتوقع من بوش ان يعنف شارون على المجازر التي ارتكبت والاجتياحات للاراضي التي اعيد احتلالها ويطالبه لا بعدم المساس بحياة عرفات وانما باطلاق سراحه فورا. لكن الرئيس بوش ارتكب خطأ جسيما عندما حمل عرفات المسؤولية، وهو بذلك يصبح في نظر العالم العربي على وجه الخصوص شريكا لشارون في الجريمة، ولن يسلم من دم عرفات اذا أريق!.

واذا كان لنا ان نحمد للرئيس بوش دعوته لشارون بانسحاب قواته من الاراضي التي اعيد احتلالها وايقاف بناء المستوطنات والعودة للمفاوضات مع الفلسطينيين وفقا لترتيبات تينيت وخطط ميتشل وما الى ذلك من قرارات مجلس الامن وارسال كولن باول للمنطقة، أفلا يحق لنا ان نتساءل عن الكيفية التي ستتعامل بها الادارة الامريكية مع الفلسطينيين في ظل غياب او تغييب الرئيس عرفات بينما هو العنوان الوحيد للشعب الفلسطيني؟!.

أوليس غريبا بعد كل هذا التجني من الرئيس الامريكي على الرئيس الفلسطيني ان تلتزم القيادة الفلسطينية بضبط النفس وتتعالى على جراحها وتعلن موافقتها على تنفيذ ما ورد في الخطاب من مطالبات واقتراحات. وفي ذات الوقت تعلن الحكومة الشارونية رفضها الالتزام بما هي مطالبة به من وقف الاجتياحات واطلاق النار، بل وكل ما جاء في خطاب بوش خاصة وقف بناء المستوطنات؟!.. ويأتي هذا في اعقاب رفض شارون مقابلة الوفد الاوروبي لعرفات مع تفضله على الجنرال زيني منفردا بمقابلة الرئيس المحاصر الذي وافق للجنرال بأن يجتمع مع صائب عريقات وآخرين من القادة لمناقشة بعض تفصيلات ما جرى بينهما من تداول، لكن شارون سرعان ما اعلن رفضه عقد ذلك الاجتماع في القدس أو أي مكان آخر، ولم نسمع للجنرال زيني صوتا يحتج او حتى يتوسل، ناهيك من ان يأمر فيطاع وهو الذي يتحدث باسم الرئيس بوش، وهو الوسيط الذي كان مفترضا ان يحقق الامن والسلام. لكن شارون حصر مهمته منذ البداية في الامن، ثم صادرها منه وتركها للجنرال موفاز الذي شن حرب ابادة شاملة على الفلسطينيين، ومع ذلك ظل الجنرال زيني قابعا في المنطقة وصامتا حتى اشعار آخر، بل انه بعد لقائه الاخير مع عرفات قام شارون بقطع الكهرباء عن محبسه كما قام الجيش بتفتيش منزل وزير الاعلام ياسر عبد ربه واحتجازه لبعض الوقت في دلالة جديدة على ان العدوان الاسرائيلي سيشمل القيادات الفلسطينية الأخرى، حتى لا يتيسر لزيني او خلافه من اجراء أي حوار معها! او ربما كان ذلك محاولة لتركيع هذه القيادات التي تتضامن كلها في ان العنوان الفلسطيني الوحيد هو ياسر عرفات وانه لا احد منها سيجتمع مع كولن باول ما لم يجتمع هو بعرفات!.

واذا تركنا زيني جانبا وتحدثنا عن زيارة باول الذي من المفترض ان يكون قد وصل الى المنطقة امس فإنه في آخر لقاء صحفي معه في واشنطون تهرب من التأكيد بأنه سيلتقي بعرفات وزعم ان مكتبه ما زال يعد جدول برنامج الرحلة! وايا كان الموقف فإن زيارة باول ما لم يصاحبها استعادة كل الحقوق والمكانة للزعيم عرفات فإنها لن تكون ناجحة وستكون الولايات المتحدة ارتكبت خطأ كبيرا ان لم نقل خطيئة لن تغتفر. وستفقد آخر ما تبقى لديها من مصداقية في انها جادة في حل القضية حلا عادلا وعاجلا ونهائيا!.

ان الكل يعي بما لا يدع مجالا للشك ان الولايات المتحدة اذا عزمت وصدقت فإنها قادرة على الوصول الى الحل المرتجى في وقت وجيز من دون مطاولات مثل ترتيبات تينيت وخطة ميتشل وما الى ذلك من خطط يمكن ان تقود الى حوار عشر سنوات أخرى مثلما جربنا، ثم عدنا الى نقطة الصفر. فالمطلوب فورا وبدون مماحكات او انتقاصات هو ان تعاد الاراضي التي اعيد احتلالها فورا الى السلطة الفلسطينية، والاتفاق على عقد مؤتمر تقوده وترعاه الولايات المتحدة تحت رعاية الامم المتحدة يضم عددا من الدول العربية يؤدي الى الحل النهائي وفق قرارات الامم المتحدة وفي اطار المبادرة العربية. وهذا المؤتمر لا ينبغي ان يضع الخطط العريضة لمفاوضات تجرى لاحقا بين الجانبين وانما يكون هو المنبر التفاوضي الذي يضع كل الاسس وكافة التفاصيل ومن ثم يتم التنفيذ. لا شك ان رصيد عشر سنوات من المفاوضات والاتفاقات والاختلافات قد شكل كل معين يمكن البناء عليه لحلحلة ما تبقى من مسائل معلقة او مختلف عليها. ومن مصلحة كل الاطراف العمل الآن وليس غدا لوضع حد نهائي لهذه القضية التي يعتبر صراعها اطول صراع في العالم. فشارون في ورطة والعرب في محنة وامريكا في ربكة واوروبا في حيرة بين عجز الولايات المتحدة وصفعات شارون لها والانفراط الذي قد يحدث في المنطقة ولن يسلم منه احد! كل هذه العوامل مجتمعة كفيلة بأن تجعل الجميع امام مواجهة ما عليهم من مسؤوليات وواجبات. ان شارون يزايد على نتنياهو ولكنه خسر الامن الذي منَّى به الاسرائيليين وخسر العالم، وعلى وشك ان يخسر امريكا! وحكومة بوش لم يعد بوسعها استثمار انحيازها المبالغ فيه مع شارون في انتخابات الكونغرس او التمهيد للانتخابات الرئاسية القادمة، فقد تجلى ذلك في تزايد الانتقادات للسياسة الخارجية بحسبانها تعزل الولايات المتحدة عن اوروبا وحلفائها الآخرين وانها سياسة تفتقر الى النضج والمسؤولية، وهذا ما أدى الى ان يتجرأ الديمقراطيون فيجيروا تلك الانتقادات في هجوم على سياسة بوش مما قد يجعل ذلك محورا للانتخابات النيابية القادمة!.

ويبقى الحديث عن الحالة العربية، فهي بكل صراحة ووضوح ليست افضل حالا من الاطراف الأخرى ان لم يكن حالها الأسوأ على الاطلاق، فبصرف النظر عن الخطأ والصواب، فإن هناك فجوة خطيرة جدا بين الواقع العربي وشعارات الشارع العربي، وهناك انقسامات لا تحصى في الصعيد الرسمي لما ينبغي وما لا ينبغي عمله! وهذه كلها مسائل لا تحتاج الى شرح او تبيان، لكن الأسوأ لم يأت بعد ان لم يعجل العرب بلملمة خلافاتهم والاتفاق على الحد الادنى من المواقف دون مزايدات او تراخ. عليهم ان يدعموا الانتفاضة الفلسطينية ولا يسمحوا باختطافها وتحويلها الى منصة للارهاب او ان تجير فتصنف ارهابا. وفي ذات الوقت ان ينشطوا ويكثفوا من حركتهم الدبلوماسية بما لا يدع القرارات والمواقف الاخيرة تتحول الى ارفف النسيان او الى مجرد شعارات لا يردد الناس الا ارقامها!.

حقا، وصدقا، ان العالم العربي يحتاج الى وقفة مراجعة مع النفس، خاصة اخوتنا الفلسطينيين الذين توحدوا الآن بصورة تستحق التقدير والاعجاب في وجه الهجمة الشرسة الشارونية، لكن هذا التوحد نريد له الاستمرار في التوجهات والمواقف، ولن يكون كذلك ما لم تتوحد رؤى فصائله المختلفة جذريا في السياسات والمسالك. ولذلك فإن المطلوب هو ان تتوحد كل الفصائل في جبهة عريضة خلف قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية وان تشارك فيها عبر انتخابات او كيفما كان الحال، ففي ذلك حماية لكل القوى الفلسطينية من الانقسام والتصنيف الامريكي الهادف للنيل من الوحدة التي بدونها لن ننأى عن الاقتتال بين هذه القوى مما قد يتحول الى حرب اهلية استطاع الفلسطينيون تجاوزها حتى الآن.

وعلى الصعيد العربي فإن صمام الامان للخروج بمواقف عربية موحدة هو التمسك بقوة بمبادرة السلام العربية وهي مبادرة عادلة ومتوازنة ووجدت قبولا من العالم كله وخاصة الولايات المتحدة الامريكية، ولذلك فإن الكرة الآن في الملعب الاسرائيلي وعلى العالم ان يقدم على الخطوة المقابلة والمتمثلة في الدعوة الى مؤتمر جديد لحسم الموقف بصورة تلزم كل طرف بما عليه ان يقوم به وبضمانة دولية. ولا نمل من تكرار وجوب الوقف الفوري للعدوان واعادة البنية التحتية التي دمرتها اسرائيل بصورة وحشية وعن عمد بأسرع فرصة ممكنة ومن كل القوى القادرة على العطاء.