المشروع الأصولي الفلسطيني بعد حرب شارون ـ عرفات

TT

هل اقتنع الاميركيون برؤية شارون؟ لقد رفض منذ البداية سلام اوسلو. ومنذ ان وصل الى الحكم قبل اكثر من عام اوقف العملية التفاوضية، ودمر في اجتياحاته المتكررة بنى سلطة الحكم الذاتي، وحاصر رئيسها، واعاد احتلال الضفة الغربية تحت شعار «مكافحة الارهاب»، وسرَّع عملية الاستيطان للقضاء على اي مشروع لاقامة دولة حقيقية للفلسطينيين.

شارون، خلافا للاجماع عليه بأنه سياسي فاشل، يملك قدرة هائلة على خداع المتعاملين معه وتغطية اهدافه السياسية الحقيقية. وها هو اليوم يضلل ادارة اميركية ساذجة وجاهلة بحقائق الوضع في المنطقة العربية، فيوهمها بأنه حليفها في «مكافحة الارهاب» ليضرب «الشريك» الفلسطيني في عملية السلام.

لقد انطلى الخداع الشاروني على ادارة بوش، وتحول شعار المرحلة من كيفية انهاء الاحتلال الى كيفية مكافحة الارهاب، واعطي شارون الضوء الأخضر لتصفية المقاومة الفلسطينية المسلحة وملاحقتها في المدن والمخيمات.

لكن لا بد من الاعتراف بأن الهدف الاستراتيجي الاميركي يختلف، بعد اعلانات بوش الاخيرة، عن هدف شارون الاستراتيجي. ما زالت اميركا الجمهورية والديمقراطية على حد سواء مع فرض السلام الاميركي في المنطقة، واقامة دولة فلسطينية «حيوية» بقدر الامكان، فيما هدف شارون ضم اكبر رقعة ممكنة من الضفة البالغة مساحتها خمسة آلاف كيلومتر مربع الى اسرائيل التي قامت على اكثر من عشرين ألف كيلومتر مربع من ارض فلسطين.

ادارة بوش تقول علنا انها ما زالت تعتبر عرفات رئيسا للسلطة الفلسطينية الشرعية وشريكا في عملية السلام. لكن «دمغ» بوش له بالامتناع عن اعتقال الارهاب ورفض نائبه تشيني لقاءه، ثم اذا لم يجتمع به باول خلال وجوده في المنطقة، كل ذلك يوحي بأن الادارة الاميركية ربما اقتنعت، مخدوعة ايضا، بالبحث مع شارون عن شريك فلسطيني آخر يقبل بالتفاوض معه على «ميكرو دولة» تحت الهيمنة الاسرائيلية.

لقد أظهر فريق عرفات التفاوضي ذكاء كبيرا في رفض اي لقاء مع باول قبل ان يلتقي شخصيا عرفات. فهذا اللقاء، ولو كان رمزيا، يبدد قلق فلسطينيي اوسلو، ويؤكد لهم ان اميركا ما زالت تعتبر عرفات شريكا لها في تمرير السلام الاميركي في المنطقة. وبذلك يكون الزعيم الفلسطيني قد كسب الحرب السياسية من شارون الذي يبدو الى الآن انه ربما كسب المعركة العسكرية.

لكن قدرة كولن باول على تحقيق اختراق سياسي كبير خلال زيارته للمنطقة تبدو ضعيفة. وحتى ولو تم سحب القوات الاسرائيلية واحياء العملية التفاوضية، فليس مستبعدا ان تترافق زيارته بعمليات انتحارية قوية كتلك التي رافقت زيارات الجنرال زيني وأحبطت مهمته، وغطت على وهج القمة العربية ومبادرتها السلمية.

على أية حال، من المبكر معرفة المهمة الحقيقية لوزير الخارجية الاميركي باول: هل هي الاستمرار في اعتماد اوسلو وعرفات وهو الموقف الاميركي المعلن، أم البحث مع اسرائيل والعواصم العربية المعنية عن بدائل اخرى بعد «الاقتناع» الاميركي بفشل عملية اوسلو؟

الواقع ان البحث عن بديل لعرفات أشبه بالبحث عن «الحبيب المجهول» في اغنية ليلى مراد المطربة المصرية الراحلة اليهودية الأصل. فحصار شارون له ألهب شعبيته الفلسطينية ورفضه، الى الآن، مقترحات زيني المهينة التي تجعله مجرد شرطي يطارد ويعتقل المقاومين الفلسطينيين، اعاد له مصداقيته العربية كزعيم وطني وليس «خائنا» كما هو في ادبيات بعض العواصم وفصائل الرفض الفلسطينية.

ولعل الاسرائيليين وربما الاميركيين باتوا يدركون ان من الصعب جدا احلال شخص آخر محل عرفات. ولا شك في ان مشروع البدائل، في حالة وجوده، سيركز على البحث عن فصيل او تنظيم فلسطيني قوي ومتماسك وذي قاعدة شعبية تمكنه من مواجهة الاتهام بالعمالة، وتؤهله لتدشين عملية تفاوضية جديدة على غير اسس اوسلو.

هناك تنظيمات في الساحة الفلسطينية تتوفر فيها هذه الشروط. هناك تنظيم «فتح» بقيادة البرغوثي الذي اثبت قوته الشعبية وكفاءته التنظيمية متقدما البديل الآخر، وهو تنظيم «حماس» الاصولي.

وأبدأ اليوم بالحديث عن المشروع الاصولي الفلسطيني ومؤهلات «حماس» لتكون بديلا في البحث عن حل وتسوية.

الثوابت المعلنة للمشروع تتلخص في اقامة دولة دينية على ارض فلسطين بعد ازالة اسرائيل، والقبول باليهود والمسيحيين كـ «أهل ذمة» فيها، وهو امر يلقى رفضا مطلقا لدى المسيحيين واليهود.

وتفرض الثوابت «الجهاد» لتحرير الارض والكفاح او الجهاد حق مشروع لانهاء الاحتلال. لكن اسناد «الجهاد» الاصولي الى مبدأ اعتبار فلسطين «وقفا» اسلاميا ليس ملكا للعرب وحدهم يلحق ضررا بالغا بوحدة الوطن العربي وبالقضية الفلسطينية، ويضفي طابعا دينيا على حرب التحرير مرفوضا دوليا وربما غير مقبول عربيا.

اضافة الثقل الاسلامي يدعم الكفاح العربي. لكن الخطر في هذا «الوقف» فهو يسمح بتجديد وتشجيع ذرائع تدخل الدول الاسلامية غير العربية في تقرير مصير العرب ووطنهم، ذلك التدخل الذي جر تاريخيا الويلات على العرب، فأبقاهم في دائرة التخلف قرونا، وكاد يمحو العروبة هوية وثقافة ولغة، بل ادخل تفسيرات واجتهادات ضيقة جدا جعلت الاسلام على غير ما فهموه وفسروه انفتاحا وتسامحا ولينا.

ذلك باختصار عن «الثابت» الاصولي. لكن المتحول فيه هو الذي يجعل «حماس» مرشحة كبديل ربما مقبول اسرائيليا. ولعل هذا ما جعل غزة، حيث تتركز شعبية الاصوليين، في مأمن الى الآن من الغزو الاسرائيلي، باعتبار انها ستشكل في المستقبل نواة الدولة الفلسطينية.

لم تكف «حماس» عن ارسال اشارات متناقضة ومبهمة حول مشروع الحل السياسي. قادة «حماس» يقبلون عموما بـ «هدنة» او «تسوية مؤقتة» ومرحلية مع اسرائيل (يحدد الشيخ ياسين مدتها بعشر سنوات) لكن بشرط الانسحاب الاسرائيلي من الضفة وغزة وتصفية الاستيطان. ويرجع الشيخ ياسين هذا القبول المرحلي الى «الضعف» الفلسطيني الراهن في مواجهة عدو اقوى.

أطروحة الشيخ غير مقبولة لدى اجنحة الحركة المتشددة وهي تقول ان المكتب السياسي هو الناطق الرسمي تاركة لياسين دورا «تشاوريا». لكن «حماس» تلتقي بشكل وآخر مع شارون في رفض سلام اوسلو وتدمير العملية التفاوضية، بل وتفتيت سلطة الحكم الذاتي، بل تبدو عبر عملياتها الانتحارية غير مكترثة بمأساة عرفات ومصيره. وفي شأنه بالذات، تقول انها تقبل بأية قيادة «بديلة» له يوافق عليها الفلسطينيون.

ولعل قبول «حماس» بفيدرالية مع الاردن تضم الضفة وغزة تجعلها اكثر قبولا لدى شارون الذي يؤمن بأن الاردن في اكثريته العددية الفلسطينية هو الدولة الفلسطينية. لكن حماسة «حماس» لهذه الدولة الفيدرالية قد فترت مع ابعاد زعمائها من الاردن، ومع تردي علاقتها مع الاخوان الاردنيين الذين تتهمهم بمسايرة النظام الاردني.

لقد قامت علاقة ما بين «حماس» والاميركيين، وخاصة بعد موقفها المعارض لصدام في غزوه الكويت. وتمت اتصالات وحوار عبر السفارات «لتبادل شرح وفهم المواقف»، بل كان قطاع من قيادتها موجودا في الولايات المتحدة. وكان نشاطه السياسي علنيا، وسمحت له العلاقة مع واشنطن بجبي التبرعات التي اعتبرتها ادارة كلينتون «مشروعة لانها لاغراض سياسية».

لقد تعهدت «حماس» في هذه الاتصالات بعدم مهاجمة المدنيين، او الحاق الاذى بالمصالح الاميركية في المنطقة. لكن ضغوط الاسرائيليين وتحول «حماس» الى العمل الانتحاري نجحت في صرم العلاقة مع اميركا وادراج المنظمة الاصولية الفلسطينية في لائحة «الارهاب» الاميركية.

عملية سبتمبر الاصولية اضعفت كثيرا من احتمال تقديم «حماس» كبديل لعرفات. ولمداراة الاميركيين اوقفت المنظمة عملياتها الانتحارية كيلا تفسر تفسيرا اميركيا «خاطئا»، ثم اضطرت الى العودة اليها تحت وطأة العمليات الانتقامية الاسرائيلية.

لقد راهنت «حماس» على فشل اوسلو والعملية التفاوضية، لكنها تلمح بقبول تسوية تفاوضية مؤقتة ومرحلية. وهي هنا ايضا تلتقي على غير موعد مع موقف شارون. وعندما يسأل موسى ابو مرزوق عن امكانية الحوار مع اسرائيل، يقول ان هناك «حلولا كثيرة» اذا كان هناك اعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، «واذا طرحت اسرائيل فكرة الحوار فلكل حادث حديث».

هل حان الحديث بعد كل هذه الأحداث؟

الجواب عند باول وفي تلميح ادارة بوش الى رغبتها في «تعريب» الحل الفلسطيني بمشاركة العواصم العربية في البحث عن حل، وربما في المشاركة مع الفلسطينيين في العملية التفاوضية.

لم ينته، بعد، الحديث الصريح عن المشروع الاصولي الفلسطيني. وهو حديث واجب لتكون المواقف واضحة امام الرأي العام العربي في غمرة الشحنة الهائلة من العواطف التي اججتها حروب شارون.