أيهما الأسبق: مكافحة الإرهاب أم مكافحة الجوع؟

TT

يسجل المجتمع الدولي العامل في إطار النظام العالمي الجديد، تعثراً في مساره على جميع الأصعدة. ويظهر فشله في معالجة النزاعات السياسية أكثر مما يظهر في معالجة القضايا الاقتصادية الاجتماعية، لأن الإعلام العالمي يسلط الأضواء على المسار السياسي أكثر مما يُعنى بالمجال الاقتصادي الاجتماعي، بالرغم من الأهمية الكبرى التي يكتسيها هذا الأخير.

في الوقت الذي كانت تنعقد في بيروت القمة العربية لمعالجة النزاع العربي الإسرائيلي، الذي امتد أزيد من نصف قرن بدون حل وسلط الإعلام العالمي عليها الأضواء، وتابع بتدقيق وتفصيل وقائعها، كانت تنعقد بثالثة مدن المكسيك الكبرى (مونتيري) قمة عالمية شارك فيها 60 رئيس دولة أو حكومة لمعالجة قضايا الفقر والجوع في عالم الجنوب وما يتصل بهما من نقص التغذية وشيوع الأمراض في الأقطار المتخلفة الفقيرة أو الأشد فقراً. لكن هذه القمة، لم تظفر بتغطية إعلامية عالمية، ولم تتصدر أنباؤها سجلات الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع وشبكات الإنتيرنيت، ومرت دون أن يعلم بما انتهت إليه من فشل إلا المختصون والمتتبّعون لهذه القضايا، وهم قليلون بالنسبة لعدد المتتبّعين عبر العالم للقضايا السياسية الساخنة.

وكما أن القضايا السياسية تظل مطروحة على المجتمع الدولي في اجتماعات متوالية، ويُتّخذ كل مرة بشأنها مقرّرات حاسمة، فإن القضايا الاقتصادية والاجتماعية تجري معالجتها على الصعيد العالمي بنفس الوتيرة، وتُتّخذ في شأنها قرارات حاسمة، لكن تظل القضايا ـ كيفما كان نوعها ـ التي ينكب المجتمع الدولي على معالجتها تراوح مكانها. فالقرارات لا تنفذها الدول العظمى، وهيأة الأمم لا تملك سلطة ضاغطة لفرض احترامها. وهو ما يعني أن النظام العالمي الذي يطلق عليه عادة نعت الجديد يفقد جِدَّته ساعة ميلاده، ليصبح قديما أو امتدادا يطويه النسيان بحكم أن قراراته سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي الاجتماعي تصبح عبثيّة لا جدوى لها.

كانت الغاية من عقد قمة «مونتيري» منحصرة في نقطة واحدة أو محور وحيد: «التمويل اللازم للتنمية»: ما مبلغه؟ وما هي نسبته؟ وهل التزمت الدول الغنية بدفع ما هو واجب عليها تسديده لمحاربة الجوع ومكافحة الفقر في العالم الثالث والرابع الذي يعني عالم الدول الأكثر تخلفاً، والأشد فقراً، والتي يطلق عليها تأدباً في لغة المجتمع الدولي الدول الأقل تقدما وتتعدى أربعين دولة في عالم الجنوب؟

وقد سبق للأمم المتحدة في إطار برنامجها المسمى «المعونة العامة للتنمية» أن حددت المبالغ الواجب دفعها في نسبة 0.7 بالمائة من حجم ثروة كل بلد غني يدفعها لصندوق البرنامج. لكن هذا القرار لم يُوَفِّ به إلا النادر من الدول التي التزمت به، لذا كان المفروض تدارك هذا الخلل في قمة «مونتيري» التي كانت أنظار الفقراء مرتدة إليها.

وقد تفرعت عن محور القمة الأساسي الوحيد ستة محاور هي:

(1) تعبئة الموارد المالية الوطنية لخدمة التنمية.

(2) تعبئة الموارد المالية الدولية لخدمة التنمية.

(3) تعزيز التبادل التجاري العالمي بوصفه محركاً للنمو والتنمية.

(4) توثيق التعاون المالي والتقني الدوليين من أجل التنمية.

(5) تعزيز تماسك الأنظمة النقدية والمالية والتجارة الدولية لدعم التنمية.

(6) تخفيف عبء المديونية الخارجية.

إن إعداد جدول الأعمال بهذا التبويب الجديد، وحصر عمل القمة في محور واحد تتفرع عنه محاور ستة كانا كفيلين بضبط مداولات هذه القمة بما يُحصِّنها من الوقوع في الخلط والتمييع لو أن رؤساء الوفود التزموا بمناقشة جدول الأعمال نقطة بعد أخرى، لكنهم فضلوا منذ بداية الاجتماع أن تكون خطبهم فلسفية وفضفاضة يضيع فيها المضمون في خضم بلاغات سياسية تتجنب بقصد وإصرار الإفصاح عما هم مستعدون لتنفيذه والوفاء به قولا وفعلا، مما وجه البيان الختامي في طريقة التعميم بدل التدقيق والتمحيص لإبراز مواقفهم من كل محور مطروح على جدول الأعمال. وبمقتضى ذلك ظهر أن القمة لن تتجاوز حدود الخطابيات التي لا تُسمن ولا تغني من جوع.

منذ البداية، وانطلاقا من الخطب التي تلاها رؤساء الوفود في الجلسة العلنية، تبين أن القمة موزعة بين عدة اتجاهات يصعب إيجاد تراض وتوافق بينها.

عبر الرئيس جورج بوش عن اتجاهه الخاص عندما ربط بشروط صعبة ـ حتى لا نقول مستحيلة ـ استعداده لزيادة حجم إعانة بلاده بمنح الدول الفقيرة خمسة مليارات دولار، لا تستفيد منها إلا الدول الفقيرة التي تنخرط في نظام السوق الحرة (العولمة)، وتدير اقتصادها الوطني بشفافية ونظافة ونزاهة، ولا تسودها المحسوبية والرشوة والتلاعب بالمال العمومي، وتعمل بنظام ديمقراطي تحرري.

ولا نحتاج إلى القول إن معظم الدول الفقيرة التي تنتظر المعونة الدولية على أحر من الجمر لمجابهة الفقر والعوز والمرض لا تتوفر لها هذه الشروط، وبالتالي فهي مقصاة حُكْما من المعونة في نظر الرئيس الأمريكي. والموقف الأمريكي الغريب هذا هو ما يعبر عنه في الأسطورة المعروفة بسؤال الملك الذي كان يحمل في اصبعه خاتما مرصعا بالجواهر لِعُريان: «ماذا ينقصك؟» فأجاب العُرْيان: «الخاتم الذي في يدك يا مولاي».

ومن البداية ربط الرئيس الأمريكي بين الإرهاب والفقر وقال: «إننا نكافح الفقر لأن الأصل هو الرد على الإرهاب». أما الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي تحدث باسم الاتحاد الأوروبي، فقد دعا إلى إقامة عولمة متضامنة فيما بينها، عولمةٍ إنسانيةٍ تحت السيطرة، تعمل في تلاحم بين الأغنياء والفقراء وبين أقطار التقدم وأقطار التخلف. واختصر فلسفته هذه في تعبير «عولمة التضامن» وتقدم باقتراح ملموس هو التزام الدول الغنية بتقديم 0.7 بالمائة من ناتجها الوطني الخام لصندوق الإعانة العمومية، أي الوفاء بما تقرر في اجتماعات سابقة للأمم المتحدة بهذا الشأن، لتتقلص نسبة الفقر في العالم بحلول سنة 2015 إلى حدود النصف.

وكان الرئيس بوش قال قبل الرئيس شيراك: «إن من واجب الدول المتطورة ألا تكتفي بجعل دول أخرى (يعني الدول الفقيرة المتخلفة) تعتمد علينا لتنمية مصادر الثروة، بل عليها أن تعتمد أولا على نفسها بإصلاح أوضاعها الاقتصادية»، فإن الرئيس شيراك دعا إلى أن لا تقترن معونة الدول الغنية للأقطار الفقيرة بأي شرط. وعلى عكس ربط الرئيس بوش الفقرَ بالإرهاب وتأكيده على أن مكافحة الإرهاب تُعتبر جزءاً من مكافحة الفقر، فإن الرئيس شيراك دعا إلى تشكيل تحالف دولي لمكافحة الفقر على غرار التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب وقال: «إن ما هو ممكن ضد الإرهاب يمكن أن يكون ممكناً ضد الفقر».

أما صوت عالم الجنوب، فقد رفعه كل من رئيس دولة فنزويلا، «هوغو شافيز»، ورئيس جمهورية السنغال «عبد الله واد». الأول نادى بإعلان حالة الطوارئ (أو حالة الحصار) ضد الفقر، باعتماد أحكام استثنائية لمحاربته، في إشارة واضحة إلى تعثر قرارات الأمم المتحدة التي لم تتعبأ حولها الدول الغنية، وتعاملت معها بالروتينية الإدارية التي كان وراء تعثرها وعدم تطبيقها، وقال: «في حالة الطوارئ لا يَسأَل الإسعافُ عن الهُوية السياسية للمنكوب، ولا يَقْرِن معونته له بشروط تعجيزية».

وقال رئيس السنغال: «إن الإعانات المطلوبة هي التي ستعمل بواسطتها الدول الفقيرة على تنشيط اقتصادها، وليس من المعقول أن تُحبس عنها المعونات إلى أن تُقوِّم اقتصادها».

إن هذا هو مسلسل الدوران في الحلقة المفرغة.

وتوسط الأمين العام للأمم المتحدة بين الاتجاهات مع دقه ناقوس خطر تصاعد نسبة الفقر، وبعد ما ذكّر بالتزام الولايات المتحدة بتقديم خمسة مليارات دولار خلال ثلاث سنوات ووصفها بالمبلغ الكبير، قال إن الاتحاد الأوروبي التزم برفع مساعداته بقيمة أربعة مليارات سنويا لتصل إلى معدل 0.39 بالمائة من إجمالي الناتج الوطني الخام. وعلق على ذلك بأن هذه خطوة هامة في اتجاه تحقيق المعونة بمعدل 0.7 بالمائة الذي تستهدفه الأمم المتحدة.

وفي النهاية أتى البيان الختامي للقمة مخيباً للآمال، ولم يحظ بالإجماع عليه. ومع ذلك أُطلِق عليه اسم «تفاهم مونتيري». وقد اكتفى بالتنصيص على أن الغاية هي إقصاء الفقر والقضاء عليه، ونادى بوضع نظام اقتصادي عالمي جديد عادل ومنفتح على الجميع. ولاحظ أن الموارد المرصودة لمكافحة الفقر غير كافية، لكنه لم يحدد المبالغ اللازمة بأي رقم.

وهكذا جاءت القمة مكررة لسابقاتها: كلام كثير وشحّ كبير. وتبين أن القطب الأمريكي جاء إليها وهو ما يزال يحمل عقدة عدوان 11 شتنبر، ويُعطي لمكافحة الإرهاب التي رصد لها ميزانية عسكرية ضخمة تبلغ سنة 2003 خمسين مليار دولار رتبة أولوية الأولويات على حساب مكافحة الجوع والفقر والعوز والمرض، بالرغم من فصاحة هذه الإحصائيات: سكان العالم تجاوزوا منذ أشهر عتبة 6 مليارات نسمة، من بينهم مليار وثلاثمائة مليون نسمة يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم، ونصف سكانه أي ما يزيد قليلا على 3 مليارات يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، وكل عام يموت عشرة آلاف طفل من الجوع.

فلأيِّ الأسبقية؟ أهي لمكافحة الجوع أم لمكافحة الإرهاب؟