مهما قيل حول خطاب الرئيس الامريكي بوش، حول الاوضاع الدائرة راهنا على الساحة الفلسطينية، فإنه عبر ـ في ما وراء النغمة الاستفزازية الى حد العدوانية التي طبعته ـ عن مأزق فعلي في الاستراتيجية الامريكية ازاء الأزمة الشرق اوسطية.
فقد ينظر اليه البعض على انه تحول جذري في موقف الولايات المتحدة، الداعم تقليديا للسياسات الاسرائيلية، بمطالبته الجيش الاسرائيلي بالانسحاب من المناطق التي احتلها مؤخرا، وبحديثه الواضح عن الدولة الفلسطينية المستقلة الكاملة السيادة، وقد ينظر اليه البعض الآخر نظرة مغايرة، فلا يرى فيه سوى دعم قوي للعدوان الاسرائيلي من منظور الحرب الامريكية ضد الارهاب، التي يجري تمديدها الى الفصائل الفلسطينية المقاومة للاحتلال.
والواقع، ان في الخطاب اشارات عديدة، ومتباينة المنطوق والمقصد، وستثبت التحركات الدبلوماسية الامريكية المعلنة عن النوايا الحقيقية للادارة الامريكية.
بيد ان الذي لا شك فيه، هو ان صمود الشعب الفلسطيني في المحنة الحالية، وما واكبه من دعم شعبي عربي جارف، كان عاملا اساسيا في ارباك وافشال التوافق الامريكي ـ الاسرائيلي حول توسيع حرب الارهاب الى المسرح الفلسطيني لضرب البنية التحتية للمقاومة، واستبدال القيادة الفلسطينية بوجوه جديدة مقبولة من الادارتين الامريكية والاسرائيلية، ومستعدة للاذعان لشروط التسوية المهينة التي قدمها شارون.
وغني عن البيان ان الأزمة الراهنة قد فجرتها ديناميكية المقاومة التي تزايدت وتيرة عملياتها الاستشهادية التي ضربت في الصميم المقاربة الامنية الشارونية، ولذا فإن هذه الديناميكية هي المستهدفة في الضربة الاسرائيلية الراهنة.
وقد اصبح من الواضح ان الشرط الامريكي ـ الاسرائيلي لاستئناف مفاوضات التسوية هو انهاء خط المقاومة، وهو شرط ليس فقط مطروحا على القيادة الفلسطينية، وانما على الاطراف العربية الداعمة لهذا الخط، بل وحتى على الاعلام العربي الذي يصف اعمال المقاومة الفلسطينية بالبطولة الاستشهادية. وقد عبر الرئيس بوش بجلاء عن الاستراتيجية الامريكية لاحتواء وضرب المقاومة وكذلك وزير خارجيته باول حيث ركزا على ما سمياه «وحدة مفهوم الارهاب» وانطباق هذا المفهوم حتى على حركات التحرير الوطني المكافحة ضد الاحتلال، مما يمثل خروجا خطيرا عن احد المبادئ الرئيسية لمنظومة حقوق الانسان كما صاغتها الثورات السياسية الحديثة وعلى رأسها الثورة الامريكية.
والملاحظ أن أيا من البلدان الاوروبية، الحليفة للولايات المتحدة، لم يتبن الرؤية الامريكية التي غدت تختزل كل نظرتها الاستراتيجية للاوضاع الدولية، في حربها الشاملة على الارهاب، دون طرح اشكال مشروعية العنف، ودون التساؤل عن خلفياته ومسببات وطرق معالجته الحقيقية.
وكما بين ريتشارد كوهن في مقالة هامة بصحيفة «واشنطن بوست» الامريكية (2 ابريل 2002) فقد فات شارون ومعه الادارة الامريكية ادراك حقيقة لجوء حركات المقاومة، في الغالب الى عمليات العنف والارهاب، التي تكون عادة الاداة الاكثر فاعلية لضرب الاحتلال وانهائه، وقد شبه كوهن الحالة الفلسطينية بالحالة الاستعمارية في الجزائر، حيث نفس الاحتلال الاستيطاني، وحيث تتماثل حركية المقاومة بعنفها وحدتها وضحاياها الكثيرين من الجزائريين والمستوطنين الفرنسيين. ولقد لجأت فرنسا الى التفاوض مع حركة التحرير الجزائرية وتوصلت الى حل سياسي معها ينهي الاحتلال، بعد ان كانت تسميها بالارهاب والوحشية وترفض التعامل معها. ويرى كوهن ان الرئيس بوش اخطأ في تشبيه عمليات المقاومة الفلسطينية بتفجيرات واشنطن ونيويورك، باعتبار اختلاف المسرح والفرقاء والاهداف والخلفيات.
وفي الاتجاه نفسه، ذهبت افتتاحية صحيفة «التايمز» البريطانية (02/4/2) الى ان حرب شارون الحالية ليست سوى تكريس للحرب المجنونة التي شنها ضد المقاومة الفلسطينية خلال اجتياحه لبيروت عام 1982 بالذريعة ذاتها، اي تفكيك البنية التحتية للارهاب والقضاء على القيادة الفلسطينية. ومن المعروف ان تلك الحرب فشلت فشلا ذريعا، ولم تقض على حركة المقاومة الفلسطينية، بل فسحت في المجال بعد طرد منظمة التحرير من بيروت لأعتى حركات المقاومة وأكثرها عنفا وفاعلية، أي حزب الله اللبناني الذي قض مضاجع الاسرائيليين وطردهم من الجنوب اللبناني.
وتذهب الصحيفة البريطانية الى ان الولايات المتحدة، بدعمها الموقف الاسرائيلي، تقضي على كل آمال التسوية السلمية التي بدأت تتحدد بوضوح عبر قرارات مجلس الامن الاخيرة. والشفرة الاساس في النظرة الامريكية متأتية من اعتقاد تماهي الحرب الشاملة ضد الارهاب ونزاع سياسي يرجع لأكثر من نصف قرن ولا يمكن حله جذريا دون الاستجابة لحقوق الشعب الفلسطيني وعلى رأسها حقه في الدولة المستقلة.
ان هذه النغمة الجديدة في الادبيات السياسية والاعلامية الغربية (بل وحتى الاسرائيلية من منطلقات اخرى)، تثبت للعيان فاعلية خيار المقاومة الذي هو الورقة الوحيدة المتبقية بيد الجانب العربي في مفاوضات التسوية.
ولذا فإن تحصين هذا الخيار وتوطيده شرط اساسي لانجاح المبادرة السياسية العربية الاخيرة لحل الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وهي مهمة ضرورية وصعبة في مواجهة الضغوط الامريكية الهائلة التي ستحملها مهمة وزير الخارجية باول في المنطقة. والواقع ان معادلة الاحتلال الاسرائيلي اصبحت هشة واصبح ثمنها باهظا داخليا واقليميا ودوليا، وما الحرب الشارونية سوى تعبير واستعراض واضح عن تفجر هذه المعادلة.
وكما يقول شاعر فلسطين محمود درويش ملخصا الوضع الراهن في كلمات موحية ودالة: «ان الكذبة ضرورية لتماسك المجتمع الاسرائيلي حول اساطيره المؤسسة، وضرورية ايضا لتسوية مفهوم الصراع بين احتلال يوشك على الزوال، وبين مقاومة توشك على النصر. اما اذا كان الاحتلال هو شرط الوجود الاسرائيلي وجوهره، فتلك مسألة اخرى غير قابلة للحل».