سلاما مع عرفات لا حربا مع شارون

TT

شاء الرئيس بوش أم أبى شارون، فإن عرفات السجين الاعزل والمحتلة ارضه والمهدمة أركان سلطته هو الذي انتصر على شارون ودباباته وطائراته ومدافعه وقواته التي اجتاحت الضفة ودمرت المنازل وقتلت من قتلت من ابناء الشعب الفلسطيني المقاوم. فصموده اجبر المبعوث الاميركي على مقابلته رغم كل ما قاله عنه، رئيسه، وصمود الشعب الفلسطيني هو ما جعل من التجني الاميركي على عرفات والمطالبة او السعي الى استبدال قيادته بأخرى مجرد نكتة، وما قرارات مجلس الامن الاخيرة المؤيدة للحق الفلسطيني (رغم فتورها)، وما تصريحات ومواقف الحكومات الاوروبية، والتظاهرات في كل العواصم والاستنكار للعدوان الاسرائيلي، وما عودة وزير الخارجية الاميركي الى المنطقة، سوى عناوين صغيرة تحت عنوان كبير هو: فشل المشروع الشاروني في قمع الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية وجلب الأمن للاسرائيليين والسلام لاسرائيل.

في الرؤية البراغماتية الاميركية للأمور، برز مؤخرا اتجاه يقول بأن عملية السلام قد تتسهل اذا ما استبدلت «الرؤوس الكبيرة» او القيادات التاريخية الفلسطينية والاسرائيلية، برؤوس وقيادات جديدة. انها «طريقة» مجدية، احيانا، في الشركات والاعمال التجارية الخاصة ولكنها سياسيا وتاريخيا غير صحيحة، فالحلول التاريخية الكبرى والحاسمة، انما تتطلب لانجاحها او فرضها، رجالا تاريخيين يتمتعون بثقة شعبهم واحترامه وليس الى اداريين او تقنوقراطيين، ولا حتما الى عسكري اهوج وضيق الأفق كشارون. اما الخطأ، بل المكابرة الاخرى، في بعض مواقف الرئيس الاميركي واعوانه، فهي في تحميلهم لعرفات مسؤولية افشال عملية السلام، وتشجيع الارهاب، وتغاضيهم كليا عن السبب الحقيقي لتعطيل عملية السلام وهو رفض اسرائيل تنفيذ قرارات الامم المتحدة وعن المحرض والمسؤول الحقيقي عن تصاعد العنف، انتفاضة كان ام مقاومة ام استشهادا انتحاريا، وهو الجنرال شارون.

ان الدولة الفلسطينية آتية لا محالة وان من «سيذهب» هو شارون، لا عرفات، وان المبادرة السعودية التي تبنتها القمة هي الباب الذي لا مناص للمجتمع الدولي والولايات المتحدة الاميركية من اجتيازه للوصول الى سلام عادل ودائم بين العرب واسرائيل، صحيح ان اسرائيل نجحت والى حد كبير في ركوب موجة الهجمة الاميركية على الارهاب، وفي «اقناع» واشنطن بأن المقاومة الفلسطينية والعربية والاسلامية للاحتلال الاسرائيلي هي جزء من الارهاب الذي تتصدى له، وما من تصريح للرئيس بوش إلا وفيه طرف أو تأكيد لهذه القناعة. ولكنه صحيح، ايضا، ان حلفاء الولايات المتحدة الآخرين في حربها على الارهاب، اي الدول الاوروبية والدول العربية والاسلامية، نجحت في «اقناع» واشنطن بالعدول عن مهاجمة العراق، كما نجحت الى حد بعيد في اظهار الفرق بين «الارهاب» و «المقاومة»، وفي فضح العدوان الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني، فاسرائيل لم تكن، يوما ومنذ نشوئها مدانة عالميا على استخدام العنف غير المقبول، كما هي مدانة اليوم. لقد خسر شارون معركة تصفية ما يسميه بالارهاب الفلسطيني. ومهما طالت هجمته الشرسة على مدن الضفة وسكانها او «اعطي من الوقت» لانجاز هذه المهمة المستحيلة، فإنه مضطر عاجلا لا آجلا، لسحب دباباته وجنوده، بل والمستوطنات ايضا. اما خروجه من الحكم، فبات محتوما، سواء جاء بقرار اميركي او عن طريق انتخابات في اسرائيل. ان نجاح المبعوثين الاميركيين، باول وزيني، في وقف ما يسمونه باطلاق النار ـ وهو في الحقيقة والواقع وقف لاطلاق الصواريخ والقنابل الاسرائيلية على ابناء الشعب الفلسطيني وقياداته ـ ليس اكيدا، ولكنه ليس مستحيلا، اذا كانت واشنطن مقتنعة وصادقة في ما اعلنته، وردده مؤخرا عدد كبير من الضباط العسكريين الاسرائيليين، بأن المبادرة السعودية ـ العربية تشكل قاعدة سليمة للسلام وهو ايضا ما اعلنته معظم العواصم الكبرى. ولكن المشكلة تبقى في الآلية، اي في العثور على الصيغة المقبولة من الطرفين لوقف العنف والاطار الافضل للتفاوض والاتفاق على جدول المواضيع المطروحة على طاولة المفاوضات، هل تكون مفاوضات ثلاثية فلسطينية ـ اسرائيلية ـ اميركية؟ أم تكون مفاوضات عربية ـ اسرائيلية ـ اميركية؟ أم تكون في اطار مؤتمر دولي للسلام في الشرق الاوسط برعاية الامم المتحدة؟

ان الانتفاضة الفلسطينية والاجتياح الاسرائيلي للضفة، وكل ما يجري، اليوم من عدوان وقتال وعنف وسفك دماء وقهر، لا يمكن ان يستمر الى الابد، ولا بد من ان يتوقف، يوما، ومن الافضل للجميع، ان يكون هذا اليوم قريبا، لا بعيدا. ولكن اذا كان السلام «السياسي» صعب التحقيق بدون قبول اسرائيل بكل مقررات الشرعية الدولية، فإن السلام الحقيقي او ما سمي، ايضا بالسلام الشامل والدائم او بالتطبيع لن يتحقق إلا بشرطين: ان يقتنع الاسرائيليون ويهود العالم معهم بأن على اسرائيل استبدال عقيدتها القومية الدينية العنصرية الصهيونية بعقيدة ديموقراطية فتعيد لعرب فلسطين حقوقهم ولجيرانها اللبنانيين والسوريين اراضيهم، وتنزع فكرة «ارض اسرائيل» من رؤوس قسم كبير من ابنائها، كما لا بد، من جهة العرب والمسلمين، ان يكون موقفهم من السلام مع اسرائيل، او خطابهم الوطني والقومي والديني، واحدا، فتوحيد الرؤية او الاستراتيجية الفلسطينية والعربية والاسلامية بالنسبة للصمود بوجه التحدي الاسرائيلي ام للعيش في حالة سلام معها، يجب ان تكون رؤية او خطابا واحدا، وهذان الطريقان العريضان المؤديان الى السلام الدائم والشامل الحقيقي، غير واضحين او حتى مرتسمين، حتى اليوم، وبالرغم من نصف قرن واكثر من النزاع والحروب.

ان قمة بيروت قد فتحت بابا سياسيا امام عملية السلام. وبالرغم من كل ما قيل عن اغلاق شارون بهجومه على الضفة، لهذا الباب في وجه العرب بتغاض اميركي عنه، فإن «اللهجة» الاميركية في الحديث عن حقوق الشعب الفلسطيني وفي الاعتراض على اسلوب اسرائيل في «الدفاع عن نفسها» بدأت تتغير. وبالرغم من ان الرئيس الاميركي ما زال مترددا في المشاركة مباشرة في مفاوضات السلام، كما فعل سلفه، بيل كلينتون، وموليا اهتمامه الاول للحرب على الارهاب، بل محملا ياسر عرفات ما لا يجوز تحميله من مسؤولية، فإن الفلسطينيين والاسرائيليين سوف يجلسون الى طاولة المفاوضات من جديد، والعرب والاسرائيليين ايضا (والافضل ان يكون ذلك في اطار مؤتمر دولي ترعاه الامم المتحدة وبعد وضع قوات دولية للفصل بين اسرائيل والضفة)، ولأسباب بسيطة وواضحة وهي ان حسم الصراع العربي ـ الاسرائيلي اليوم او غدا بالحرب، (كما حصل في التاريخ القديم او الحديث) شبه مستحيل وان القضاء على المقاومة الفلسطينية والعربية بالقوة والاحتلال او باخراج ملايين الفلسطينيين من الاراضي الفلسطينية، غير ممكن او مقبول، كذلك استمرار الاوضاع الراهنة.

وليس استبدال عرفات بمفاوض آخر هو الحل العملي لانجاح عملية السلام، بل انسحاب القوات الاسرائيلية من الضفة، وسقوط شارون في الانتخابات او خروجه من الحكم، بشكل او بطريقة ما.