رام الله من بين الضباب

TT

لو كان العالم بافلوف حياً لتأكد الآن ان نظريته (Conditioned Response) صحيحة تماماً، خاصة فيما يتعلق بالصوت وترابطه مع حالة نفسية محددة.

ففي رام الله الآن عشرات الآلاف من الاطفال والنساء والرجال ارتبط بذهنهم صوت هدير جنازير الدبابات بالموت والنسف والقصف والاذلال. وارتبط بأذهان الاطفال خصوصاً، هدير الجنازير بالرعب الذي يسبب لهم ارتجافاً لمدة طويلة يرافقه بكاء ومحاولة غريزية للاختباء في احضان امهاتهم.

هذا هو الارهاب.

وتعيش رام الله الآن، بعد ان حوصر الرئيس ياسر عرفات ضمن معسكر اعتقال صغير محاط بأسلاك شائكة ودبابات، تهز ما تبقى من مقره بعد تدمير اجزاء كبيرة منه واحتلال مبانيه كلياً، رام الله تعيش عيش معسكرات اعتقال الحرب العالمية الثانية. فالتجول ممنوع، والعمل ممنوع.

قطع الاحتلال الكهرباء والماء عن احياء عديدة في المدينة. ومن لم يجرب قطع الماء والكهرباء لا يمكن ان يدرك معنى ونتائج ذلك، ابتداء من المرحاض وصولاً الى الكومبيوتر، مروراً بمخزون الأكل الذي اتلف بسبب ذلك.

تعيش رام الله، هذه الايام، طقساً شديد البرودة، فالعواصف الباردة والبرد ينهال والضباب يغلف المدينة مسدلاً عليها ستاراً من القتامة والحزن.

كنت احب الضباب وأهوى السير على قدمي بين ثناياه. وكنت اشعر بمتعة ذلك خاصة في شوارع اكسفورد، لكنني الآن، وحسب نظرية بافلوف لا اطيقه. اقول ان رام الله مغلفة بطقس بارد جداً، وهي مصيف فلسطيني كما تعلمون، ومئات الآلاف من الاطفال والنساء والرجال والشيوخ يقبعون في منازلهم او اكواخهم دون تدفئة، لأن الكهرباء مقطوعة، وكافة انواع الوقود مفقودة، ولا يمكن لأحد ان يبتاعها ان وجدت، بسبب منع اي انسان من الخروج من بيته.

منذ الصباح والسماء تنهال على رام الله شتاء وبردا وتعصف الرياح بها، وكأنها تحتج على ما تفعله القوات الاسرائيلية وتعبر عن غضبها الشديد.

دفنت رام الله امس واحدة وعشرين جثة خلال ساعتي رفع التجول. الجثث وجدت في الشوارع، وعدد منها لم يعرف اصحابه. رفض الاسرائيليون السماح بأداء الشعائر الدينية والصلاة عليهم وتشييعهم لمثواهم الاخير. وأمروا بدفنهم جماعياً في اكياس بلاستيكية في حديقة المستشفى الذي احتفظ بجثثهم في البرادات التي لا تعمل، بسبب انقطاع الكهرباء.

الدبابات تجول وتصول في كل الشوارع، وصمت الموت يهيمن على كل البيوت والبنايات والأكواخ، حتى العصافير التي اعتادت ان تغرد كل يوم، متأرجحة على اغصان شجرتي التين والبلوط المحيطتين بمكتبي، توقفت عن التغريد. قد تكون ارتعبت هي ايضاً. وقد تكون حزينة تدمع عيونها فلا تتمكن من التغريد.

ديك جارنا توقف عن الصياح صباحاً، واختبأت دجاجاته في القن. الاسوار المحيطة بمكتبي اختفى رونقها الحجري، فقد هدمتها دبابات جيش الاحتلال وحولتها الى ركام متناثر فوق اشجار الورد التي كنت قد زرعتها في الحديقة وانتظر قدوم الربيع لأرى ازهارها وورودها.

حزين هو المنظر.

* * * مستشفى الرعاية الطبية القريب من دوار المنارة، هو مستشفى تخصصي حديث ويلعب دوراً مهماً في معالجة حالات خاصة. لم تحترم قوات الاحتلال حرمة المستشفى فاقتحمته معرضة حياة المرضى للخطر. وأصرت على الدخول الى كل غرفة، بما فيها غرف الاطفال، وعيادات الاطباء وغرف العمليات. فعلت ذلك بعد ان حجزت الطاقم الطبي في غرفة. واقتادت امامها طبيباً ليدلها على الغرف والأقسام.

واقتحمت قوات الاحتلال مستشفى رام الله ترافقها كلاب بوليسية. وأدخلوا الكلاب معهم الى جناح حاضنات الاطفال!!

* * * منعوا سيارات الاسعاف من انتشال الجثث الملقاة في الشوارع، او نقل الجرحى للمستشفيات تاركيهم ينزفون حتى الموت على الأرصفة وفي الشوارع، او في بيوتهم التي اقتحموها.

اما عن اقتحام البيوت واتلاف المواد الغذائية وتحطيم الاثاث وترويع الاطفال والكبار فحدّث ولا تسل.

* * * تقوم القوات الاسرائيلية بشن حرب نفسية على الشعب الفلسطيني في المناطق التي سحقوها وأكملوا السيطرة عليها مثل رام الله.

اطلاق النار في الهواء باستمرار هو لترويع السكان. منع الماء والكهرباء عن السكان هو لترويع وتركيع السكان.

منغ التجول هو لإشعار السكان بالاختناق.

منع قوافل الإغاثة التموينية والطبية واطلاق النار عليها، كما جرى امس لقافلة الأمم المتحدة التي ارسلها كوفي أنان. فقد منعها حاجز عسكري قرب قرية قلنديا من المرور الى رام الله. وعندما أصر مسؤول القافلة اطلقوا النار عليه فأردوه قتيلاً.

كذلك حصل مع قافلة عرب 1948، فقد اوقفوها عند نفس الحاجز. وحاول التجمع الذي يرافق القافلة اقناعهم عبثاً، فاعتصموا هناك وتظاهروا. وما زالوا حتى هذه اللحظة يقفون عند الحاجز، ويضم هذا التجمع عرباً اسرائيليين ويهوداً اسرائيليين من اتباع حركة السلام.

هذا التصرف هو بند من بنود الحرب النفسية لتركيع الشعب الفلسطيني.

* * * اليوم خرجت الصحف الاسرائيلية بقصة حول اتصال هاتفي بين شارون وموفاز (سمع ـ ولا ادري كيف) تحدثا فيه حول تصفية ياسر عرفات جسدياً. طبعاً لا استغرب اطلاقاً ان يكون هذا الامر من شارون، او ان يعمل على تحقيقه فعلاً. لكن الامر، حتى هذه اللحظة، يبدو بنداً من بنود الحرب النفسية. ومع ذلك يجب ان يؤخذ بجدية كاملة. فشارون مجرم محترف وشهيته للقتل مفتوحة دائماً. ولا يعير وزناً للآخرين، ولا حتى لوعوده التي اعطاها للرئيس بوش. فجنوده الآن يحتلون الطابق الذي يشغله الرئيس ياسر عرفات من بين الطوابق الثلاثة التي يتكون منها المبنى. وهم يقفون وجهاً لوجه مع حرس الرئيس الشخصي. ويتبدل هؤلاء الجنود كل ست ساعات، بينما حرس الرئيس لا يتمكن من التبديل او حتى من النوم اكثر من دقائق بين الفينة والاخرى. فقد حل بهم الاعياء والتعب. والماء منع عن المقر، ولا شك ان القارئ يعلم ما هي النتائج المترتبة على ذلك سواء كانت بنسبة للمراحيض او الاستحمام او حتى الوضوء. والكهرباء مقطوعة ايضاً ولا شك ان القارئ يعلم ايضاً نتائج ذلك.

في الوقت الذي يتابع فيه شارون حرب التصفية الجسدية في كافة مدن الضفة الغربية بدأ يشن حربه النفسية.

والسؤال هنا، ما هو الهدف الأبعد لهذه الحرب النفسية والجسدية، اضافة للأهداف التي ذكرناها؟

جوابي كلمة واحدة:

التهجير! فشارون من اصحاب الرأي الذي يقول انه لا بد من ترحيل اعداد كبيرة من الفلسطينيين من الضفة وغزة حتى تصبح نسبة الباقين مواتية او قريبة من نسبة المستوطنين، كي يتمكن من جلب مليون مهاجر جديد من اميركا اللاتينية.