كوابيس الذاكرة ودروس التاريخ

TT

يبدو احيانا وكأن الفرنسيين يشترطون على انفسهم البدء بقراءة صفحتين من تاريخهم الحديث والمعاصر، كلما ارادوا فتح صفحة جديدة او طي واحدة قديمة. وتتصل الصفحة التي يحبذ الفرنسيون اتخاذها كفاتحة لكتابهم في التاريخ بثورتهم الشهيرة تلك التي استمروا يشيدون على اسمها صرح قامتهم الحضارية، فيطلون على العالم تارة بهالة الأنوار والمعارف والعلوم ويزحفون عليه تارة أخرى بجحافل الجيوش ومدافع بونابارت. ولا يتحرج الفرنسيون، كما نقرأ في كتبهم ونشاهد على شاشاتهم، من الخلط والوصل بين هذين التوجهين في تاريخهم باعتبار انهما الوجهان اللذان كان لزاما على فرنسا ان تظهر بهما في ظل ما كان سائدا من مقولات وافكار تنظر للتفوق الحضاري وتشرع للتوسع الاستعماري. غير ان هذا التوافق او شبه الاجماع الذي يسم علاقة الفرنسيين بهذه الصفحة البارزة من ماضيهم، لا يلبث ان يتقلص او هو يكاد ينعدم عندما يتعلق الأمر بصفحة أخرى لا تقل اهمية عن الأولى بل لعلها تعتبر اكثر دقة وحساسية باعتبار انطوائها على موضوعات ما زالت حية عن جراح لم تندمل وعن ضمائر ما فتئت تتردد بين القطع مع السبات الطويل وبين الموت فيه والخلود اليه. ونحن لا نعني هنا غير تلك الصفحة التي يفتحها الفرنسيون خلال هذه الايام عبر مختلف وسائلهم الاعلامية، والتي انبروا يتجادلون على ضوئها حول تاريخ استعمارهم للجزائر، وذلك بمناسبة مرور اربعين عاما على رحيلهم الشامل والنهائي عن هذا البلد.. وما يميز جدل الفرنسيين الصاخب حول هذه المسألة هو تركيزهم الملحوظ طوال هذه المدة على جرائم التعذيب والتنكيل التي ارتكبها الجيش الفرنسي بحق ثوار جبهة التحرير والشعب الجزائري بشكل عام، فكأننا بكتاب الجنرال المتقاعد اوساريس الذي التفت الى الماضي بعين وحيدة فاعترف عن نفسه وعن الآخرين، ممن جايله في هذا الجيش، بما اتوه وما شهدوا عليه، كأننا بهذا الكتاب قد فتح شهية الجميع الى البوح والافصاح عما كان موضبا ومرتبا بنظام في رفوف النسيان بشكل لا يجعل الاشياء تنكشف دفعة واحدة ولا هي تظل مطموسة الى الأبد. وهذا لعمري ما يمكن اعتباره بمثابة الحمية العلاجية التي قد تنفع في الحد من صداع الذاكرة ومن الصعقات المكهربة للضمير من ناحية ثم هي قد تفيد ايضا في التعويض عن آلام الآخرين وان بشيء من الاسبرين الاعلامي من ناحية أخرى. ولو اخذنا بعض الامثلة لتبينا الى أي حد يتفاقم ذاك الصداع فيغدو ارتجاجيا وكيف تشتد معه تلك الآلام فتصبح مزمنة وغير قابلة للعلاج. ففي احدى حلقات برنامج «مبعوث خاص» الذي تبثه القناة الثانية الفرنسية تم التطرق الى موضوع النساء الجزائريات اللائي تعرضن الى حالات اغتصاب من طرف عناصر في الجيش والشرطة الفرنسيين، ابان حرب التحرير الجزائرية. وعلى الرغم من ان كل الشهادات التي حصل عليها محققو البرنامج حول بعض الحالات كانت مؤلمة ومؤثرة إلا ان هناك ثلاثا منها يصعب الاكتفاء بوصفها بما هو متاح من مفردات في مثل هذا الحيز. وتتعلق الشهادة الاولى بشاب لا يمكن الجزم بأنه جزائري او فرنسي وانما سنكتفي بترديد ما جاء على لسانه في هذا البرنامج، حيث قال بأنه ابن لبعض فصول العار التي حفت بهذه الحرب. والقصة المأساوية لهذا الشاب تتلخص في كونه قد شب وهو فخور بأنه ابن لشهيد جزائري ليكتشف ذات مرة بأن القدر قد ساقه الى هذه الدنيا على اثر عملية اغتصاب تعرضت لها امه من طرف مجموعة من الجنود الفرنسيين... وتخص الشهادة الثانية التي جاءت في هذا السياق، مجندا سابقا في الجيش الفرنسي قاد محققي البرنامج الى المكان الذي شاهد فيه بأم عينه بعضا من زملائه وهم يتداولون على مجموعة من النساء والفتيات الجزائريات. المجند الفرنسي الأسبق انهار على ركبتيه باكيا عندما استرجع عبر خراب المكان بعضا من خراب الذاكرة، فرأى وأرانا معه عبر نشيجه ونحيبه مشاهد من جراحات الضحايا وعذاباتهن. وتتصل الشهادة الثالثة والاخيرة بمغتصبة جزائرية حضرت جلسة المحاكمة القضائية للجنرال اوساريس حول كتابه المذكور، فلم تتورع عن التصريح، وهي تلتقط صورة تذكارية مع المجند المشار اليه، بأنها لا تحقد على احد ولكنها ما زالت تتألم من فرط ما تعرضت اليه قبل اكثر من اربعين عاما.

قد يكون القصد من فتح الاعلام الفرنسي لهذا الملف في مثل هذه الفترة بالتحديد، هو تأجيج الصراع بين اليمين واليسار بما يضمن مزيدا من تشنج الاعصاب ويضيف الى رصيد الدسائس والمؤامرات بين اقطاب الحملة الانتخابية الرئاسية الجارية حاليا في فرنسا. وقد يكون الدافع اخلاقيا يبتغي الفرنسيون من ورائه التأكيد على بلوغ ذاكرتهم سن الرشد بعد اربعين سنة، أي انها غدت قادرة على مواجهة نفسها والتكفير عن ذنوبها بالشكل الذي يؤدي في النهاية الى تقديم وجه آخر لفرنسا مثلما قال فرانسيس جانسون احد الذين تزعموا الحركة الفرنسية المساندة لنضالات الشعب الجزائري ابان الحرب. لكن ومهما تعددت الدوافع وتداخلت الاسباب فان ما يمكن استخلاصه من هذه «الصحوة» الاعلامية الفرنسية، هو انها اولا ما زالت محدودة بالقياس مع ما هو متبع ازاء هذه المسألة في السياسة الرسمية. فقد ظلت السلطات الفرنسية الى حدود سنة 1983 تمنع بشكل او بآخر أي خوض في موضوع التعذيب خلال الحرب الجزائرية. كما استمرت هذه السلطات الى اليوم عبر مناهجها الدراسية تقتصر على سطر واحد تلمح فيه باقتضاب الى ما تصفه بحصول اعمال مشينة اثناء تلك الحرب. ثانيا: ان هذه الصحوة ـ اذا اتفقنا على تسميتها بذلك ـ تعبر بشكل بليغ على ان الشعوب التي تؤذي غيرها انما هي تحكم على نفسها تبعا لذلك بالأرق الدائم والكوابيس التي تظل تتوارثها عبر نهاراتها ولياليها جيلا بعد جيل. وهذا لعمري ما لم يتفطن اليه شارون وتفطن اليه كل من بدأ يساوره اليقين بان التنكيل بالفلسطينيين على نحو ما هو حاصل حاليا، لن يضمن للاسرائيليين مستقبلا آمنا وسلاما بل كوابيس وليس غير الكوابيس.

* باحث تونسي [email protected]