يقول مالك بن نبي «كل من يدخل العصر وهو غير محيط بإضافات المعرفة الإنسانية سوف ينال السخرية» بمعنى أن (الزهراوي) لو تقدم إلى مؤتمر في جراحة الأوعية الدموية وتحدث عن طريقته في معالجة الأنورزما (أمهات الدم) فلربما اعتبر كلامه في أحسن الأحوال مسلياً ولسوف يكون المستمعون بين مبتسم ومتضايق. ولكن لن يحمل أحد كلامه على محمل الجد. وفي زمن الزهراوي كانت معالجة أمهات الدم بالانتباه إلى عدم (بطها) أي ثقبها ـ على حد كلامه ـ كونها تنزف حتى الموت وربطها بخيوط الحرير كلام صحيح. ولكن تطور هذا اللون من الجراحة وصل إلى مستوى (اللاجراحة).
واليوم تعالج هذه الأمراض بدون فتح الجسم بثقب بسيط يدخل منه إلى المكان فيوضع شبك معلق بخطافات. ونحن هنا لسنا بصدد استعراض تاريخ الجراحة، بل بصدد بحث العولمة. وإذا كان هذا الكلام يصلح للجراحة فهو ينطبق على كتب التفسير فلا يمكن إضاءة القرآن بآراء رجال بسطاء، كما لا يمكن فتح جمجمة مريض بأدوات فرعونية. ولا يمكن بناء ثقافة إسلامية معاصرة بتفسير تبسيطي، بل لا بد من الاسراع بتشكيل ثقافة إسلامية معاصرة تعتمد العلوم الإنسانية المساعدة.
وهذا ليس انتقاصاً من قدر اي أحد ، ولكن من يريد أن يبني ثقافة يجب أن يكون رائدا من روح العصر. العولمة هي اتجاه القرآن ونداء الأنبياء، ومصير الإنسانية، ونهاية الرحلة الأنثروبولوجية، وهي حركة الكون. وكل خطاب القرآن كان معنونا للناس أو المؤمنين: يا بني آدم. يا أيها الناس. يا أيها الذين آمنوا. ولم يكن الخطاب قوميا أو عنصريا أو حتى للذكور. وفي القرآن ان الله خلق الإنسان من ذكر وأنثى وجعله شعوباً وقبائل ليتعارفوا.
والعولمة حركة كونية مثل تساقط الورق في الخريف وازهرار الأرض في الربيع والبرد في الشتاء. وكما في الرياضيات في علم (التفاضل والتكامل) فإن (البيولوجيا) تتكامل من خلال عمل ضفيرة من الاجهزة. كذلك يتكامل البشر في المجتمع من خلال تنوع الاختصاصات. وكذلك تتكامل المجتمعات فتنفتح على بعضها البعض. فالعولمة من هذا الطرف هي إضافة نوعية للجهد البشري.
ولكن رحلة البشر تشبه مخططات السكر في الدم، أو البورصات في أسواق المال، وحركة الموج في وجه السفن، مع إضافة هامة أن المخططات تترجرج وترتفع وتنزل، ولكنْ هناك قانون نوعي ثابت يمسك برقبة مجموع المخططات، فالسكر يستقر عند 100 ملغ في ليتر الدم، وحركة الأسهم المالية لها قرار، كما أن موج البحر يخضع لقوانين فيزيائية. في البيولوجيا يقوم بقاء الأنواع على التنافس، أو هو بتعبير القرآن أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض والزبد يذهب جفاء. وهذا يعني في دنيا العولمة أن وقت اجتياح العالم بالفتوحات والسيف انتهى، وان من عنده فكر صالح يكتب لنفسه الديمومة والانتشار. وهذا يفتح لي روزنة في فهم جدلية السلام والسلاح، حيث ولد السلام من أتون السلاح النووي في تناقض مدهش، وكان هذا في صباح 16 يوليو من عام 1945 عندما جرب السلاح النووي في صحراء نيفادا للمرة الأولى على قنبلة البلوتونيوم 239، ولم يستخدم هذا السلاح سوى مرة واحدة بقنبلتين أو ثلاث على هيروشيما وناغازاكي، وعندما طلب الجنرال (ماك آرثر) 26 رأساً نووياً لانهاء حرب كوريا عام 1950 كان جواب (ترومان) الرئيس الأمريكي يومها «ان السلام العالمي أهم من حماقة جنرال». وهذه العقيدة قررها (جوناثان شيل) في كتابه (مصير الكرة الأرضية) نقلا عن (آيزنهاور)، «ان على الطرفين المتصارعين استيعاب حقيقة كريهة ان المشاكل لا يمكن حلها بالقوة المسلحة وان عليهما الجلوس إلى طاولة المفاوضات أو الاستعداد للانتحار». هذه الحقيقة قررها أيضاً الرأس العلمي (روبرت أوبنهايمر) لمشروع (لوس آلاموس) لانتاج السلاح النووي عشية انتهاء الحرب الكونية الأخيرة عندما تصور «عقربين يتأهبان لقرص بعضهما يجمعهما ناقوس زجاجي مشترك» أو بتعبير (جورباتشوف) الزعيم السوفياتي السابق في كتابه (البيروسترويكا) «ان العصر النووي يحتاج إلى عقلية نووية فقد انتهى عصر الهراوة والغابة». أو بتعبير (لي بتلر) أعظم استراتيجي نووي أمريكي في مقابلته مع مجلة «در شبيجل» الألمانية عندما وصف المرحلة السابقة من الحرب الباردة «لقد كنا كالمخمورين الذين يجربون الروليت الروسية ولا أدري كيف نجونا». هذه التصورات هي التي خلقت عقيدة الردع المتبادل ثم الدخول في الحرب الباردة ثم دفنها في جنازة خاشعة في مؤتمر باريس.
والآن مع استقرار هذه الحقيقة يجب أن لا ننخدع بثعابين سحرة فرعون الجديد أو تصريحات بوش عن الدرع الفضائية. ونحن ندخل زماناً مختلفاً كما في تعبير (سكينر) من علماء النفس السلوكي ان الثقافة العالمية شكلت الإنسان الجديد، ونحن الآن نشهد موت (مؤسسة الحرب) على الرغم من الفرقعات هنا وهناك، مثل أي محتضر يتشنج في لحظات احتضاره الأخيرة. وإذا كان بعض الناس يفضلون البقاء على نور مصباح الكيروسين أو اللجوء للعد بأصابع اليدين أو القدمين، فإن العصر الذي نعيش فيه هو الانترنيت والكمبيوتر والنور الكهربي. عرفه من عرفه وجهله من جهله.
هذا التطور لم نفهمه نحن، ولم نستوعب أن الشمال استوعب هذه الحقيقة، فلا حرب بعد اليوم، وأن الحرب وضعت أوزارها، وأن الحروب اليوم هي شريعة المتخلفين ولو كانت إسرائيل وأمريكا. ولكن بيننا وبين فهم هذه الحقيقة سنة ضوئية.
أتذكر نفسي تماماً حينما هبطت بي الطائرة في مطار (نورمبرغ) عام 1973 مكان ولادة الحزب النازي التي تحولت لاحقاً ساحة لمحاكمة مجرمي الحرب، وأدركت يومها انني اخترقت حاجز (الجغرافيا) في ثلاث ساعات، ولكن حاجز (اللغة) تطلب مني جهد ثلاث سنوات، أما الحاجز (الثقافي) فقد لا يخترقه المرء في ثلاثين سنة.
وهذا يدخلنا إلى اشكالية تداخل الثقافات مثل اختلاط ماء النهر الحلو وثبج البحر المالح، أو تداخل أمواج البحر بينهما برزخ لا يبغيان. فلا يمكن أن تتداخل الثقافات بدون اشكاليات، لارتباطها بقيم وتقاليد مختلفة. ويبقى الوعاء اللغوي الثقافي حاجزاً سميكاً يتطلب جهداً غير عادي لاختراقه.
نحن إذاً أمام ثقافة فهم الآخر ويجب توقع قدر من الاحتكاكات غير المريحة، ولكنها معاناة لا مفر منها من أجل تشكيل الإنسان العالمي القادم. ولكن كما يدخل الإنسان بلداً مختلفاً بلغة جديدة فيتهيأ لهذا بدورة لغة، كذلك فنحن مقدمون على مرحلة تحتاج إلى دورة برمجة للتكيف.
كان الإنسان قبل عشرة آلاف سنة يطارد الوحوش والوحوش تطارده .. ولكن ما مصير الإنسان بعد عشرة آلاف سنة؟