بقية تأملات في القمة ـ الهدية

TT

لا نظن ان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الامارات كان يتصور عندما قرر تجيير القمة العربية الثانية الى لبنان، وهي التي بموجب القاعدة الابجدية مكان انعقادها ابو ظبي، ان نقاشاً سيحدث داخل اهل الحكم اللبناني في شأن هذا الانعقاد بحيث يكون هنالك متحمسون للقمة ومعارضون لها وبين الفريقين هنالك الطرف المتحفظ على انعقادها. كذلك لم يخطر في باله ان الذين غابوا عن القمة لن يشاركوا وهم المفتَرَض فيهم ان يكونوا في طليعة الحاضرين.

وإلى ذلك ان الشيخ زايد لم يخطر في باله ان القمة ستكون مناسبة لتصفية حسابات بين اجنحة اهل الحكم اللبناني اتسمت بالنكايات. كما لم يخطر في باله ان طقوس البروتوكول ستصل الى حد تصنيف العرب درجات وفق اللون والقدرة المالية والتواجد الجغرافي. وهو لو خطر في باله ان ذلك سيحدث لكان أرفق التجيير ببعض النصائح بحيث لا تشوِّه طقوس البروتوكول من جهة وسياسة تصفية الحسابات من جهة اخرى هذه القمة التي لم يجيِّرها الى لبنان لضيق المكان وضيق ذات اليد ولدواعي الأمن في دولة الامارات فهذا كله متوفر، وإنما لأنه اراد إهداء لبنان ما هو أهم بكثير من مساعدات في انجاز مشاريع البنية التحتية او مساعدات لتنظيف الارض اللبنانية من الالغام الاسرائيلية. والأهم الذي نعنيه هو قمة تنعقد في العام 2002 بدل ان تنعقد بعد عشر سنين وبذلك يكون انعقادها تكريماً للدولة العربية الوحيدة التي سجلت المقاومة فيها نصراًَ على الاحتلال الاسرائيلي وإلى حد انسحابه مدحوراً مذموماً ومدمّى، ومساهمة معنوية من دولة الإمارات في وضع لبنان على خارطة الدول التي تنعقد فيها المؤتمرات من دون خوف من احد او إخافة لأحد. وهي في اي حال لفتة من رئيس دولة طالما جعل الحكمة هي القاعدة في تعامله مع الاوضاع الصعبة والقضايا الشائكة.

وإذا جاز القول فإن الرد اللبناني على تحية الشيخ زايد لم يكن بالمثل. فلا الذي جرى لوزير الإعلام غازي العريضي كان يجب ان يحدث، وهو الذي بسبب قدراته الإعلامية ورؤاه الوطنية كان قادراً على توظيف قوافل الإعلام العربي والاجنبي التي جاءت من كل صوب الى بيروت من اجل تغطية اعمال القمة العربية الدورية الثانية وعلى نحو جيد. ولا الاستهانة التي لحقت برئيس البرلمان اللبناني نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري كان يجب ان تحدث خصوصاًَ ان الحضور الذي لكل منهما في المحيطين العربي والدولي وكذلك في المحيط الاسلامي من شأنه ان يرفد القمة بالمزيد من الرؤى وتخلق اجواء افضل.. وخصوصاً بعدما تكاثر الغائبون عن القمة من القادة العرب. ولا النظرة البروتوكولية الفوقية في التعامل مع بعض الدول كان يجب ان تحدث، وبالذات مع السودان الدولة التي يذكر اللبنانيون بالخير مساهمتها المخلصة في زمن قوات الردع العربية وأي اسلوب محترم اعتمده الجنود السودانيون الذين شاركوا في تلك القوات وبالذات عندما كان موقعهم مطار بيروت. وما هو معروف عن السوداني هو أنه «اخو اخوان» ويمكن الاعتماد عليه في الزمن الصعب وعندما تشتد وطأة الملمات، من دون ان يعني ذلك ان الاعتماد يجب ان يكون مالياً. ومن هنا فإنه كان من غير اللائق ان يأتي البروتوكول اللبناني على حساب رئيس من المفتَرَض بلبنان تكريمه وتعويضه عدم شمله في السابق بالاهتمام. وعندما لا يشارك الرئيس عمر حسن البشير في القمة رداً محقاً منه على قلة بعد النظر من جانب اهل البروتوكول اللبناني الذين لم يجدوا جناحاً للرئيس في فندق القمة شأنه في ذلك شأن الآخرين، فإنه اراد بذلك وضع حد للاستهانة اللبنانية اصلاً بالسودان حيث لا يُزار ولا يُستشار وكما لو انه ليس الشقيق البار الرابض بجسارة على المدخل العربي المتسع الارجاء للقارة الافريقية. وفي هذا الصدد يجوز الاستهجان لأن الرئاسات اللبنانية الثلاث لا تشمل السودان بجولاتها مع ان ذلك مفيد للبنان، ولأن الوزير اللبناني الوحيد الذي زار الخرطوم انما زاره فقط لأنه يحمل دعوة الى الرئيس البشير للمشاركة في القمة. ونحن هنا لن نضيف المزيد ولكن التمني جائز بأن يشمل الرئيس رفيق الحريري السودان بجولاته اذ ليس طبيعياً ان يصل رئيس الحكومة اللبنانية الى ارمينيا ورومانيا لكنه لا يحط الرحال لبضع ساعات في الخرطوم وخصوصاً عندما يكون في مدينة جدة التي طالما يُكثر من زيارتها والتي هي على مرمى رحلة طائر سريعة من العاصمة السودانية، وبذلك تزول هذه الندبة من جبين العلاقة اللبنانية - السودانية خصوصاً ان ما يجمع البلدين هو الإيقاع من حيث الاسم وهو التراث الديمقراطي لدى الشعبين وهو أن قمة بيروت ربيع 2002 كانت توأم قمة الخرطوم صيف 1967 هذا اذا لم نقل ان قمة العاصمة المثلثة في زمن الثنائي الذي لا يعوَّض (اسماعيل الازهري ـ محمد أحمد محجوب) كانت من حيث الظروف والنتائج والضرورات والمفاجآت بمثل قمة العاصمة اللبنانية المنبعثة من رماد حرب ست عشرة سنة ليست حرب جنوب السودان، التي ما ان تتوقف حتى تبدأ من جديد، شيئاً قياساً بفظاعتها وويلاتها.

وإلى ذلك إنه عندما ارتأى الشيخ زايد تجيير القمة الى لبنان لم يخطر في باله ان هذه القمة سترقى الى مرتبة القمم التاريخية التي يشكل انعقادها بداية تحولات بالغة الاهمية في المسار العربي. وهذه التحولات تتمثل بالرؤية التي خطرت في بال ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز كخطوة تتسم بالحنكة والحكمة في المواجهة السياسية مع اسرائيل، ثم ما لبثت ان تحولت الى مبادرة عربية حظيت بالترحيب الخالي من المسايرة وبالاجماع المستند الى الاقتناع. كذلك تتمثل التحولات ببوادر مصالحة خليجية ـ عراقية طالما دعا الشيخ زايد اليها، بل انه منذ ست سنوات وهو ينادي بها ومن دون ان يتسبب عدم التجاوب مع النداءات والتمنيات في وقف المطالبة بهذه المصالحة. ومن المؤكد ان لحظة العناق العروبية بين الامير عبد الله وعزة ابراهيم اثلجت صدر الشيخ زايد كما لم تثلج هذه اللحظة احداً آخر لأنها ما دامت حدثت فإنها ستصمد وستتطور لأنها في الدرجة الاولى بين السعودية والعراق، ولأن طرفي العناق هما عبد الله بن عبد العزيز، الذي شق الطريق من قبل في اتجاه اصعب خصومة نعني بها الخصومة السعودية- الايرانية واثمرت مساعيه وفاقاً يقترب من المثالية بعدما اجتاز عثرات تعقيدات التفهم، وعزة ابراهيم الذي هو رمز انفجار الازمة بين العراق والكويت بعد انهيار المحادثات التي استضافتها المملكة في يوليو (تموز) 1990 في مدينة جدة وترأسها عزة ابراهيم نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عن الجانب العراقي والشيخ سعد العبد الله الصباح ولي العهد رئيس مجلس الوزراء عن الجانب الكويتي. ومن المؤكد ان العلاقة الشخصية التي يحتفظ الإثنان الامير عبد الله وعزة ابراهيم بأطيب الذكريات عنها هي التي جعلت العناق بين ابو متعب وابو احمد (على نحو ما يستحب الإثنان مناداة بعضهما) يبدو عفوياً وجعلت المصافحة العراقية ـ الكويتية تبدو ضرورية على رغم برودتها، إلاَّ ان الاقتناع بضرورة كتابة العلاقة السعودية ـ العراقية والعراقية ـ الكويتية على صفحة ناصعة البياض جديدة هي التي جعلت المفاجأة التي لم يتوقعها احد، وبالذات الادارة الاميركية وحليفتها الحكومة البريطانية، تتوهج في سماء قمة بيروت. وفي ذلك ما جعل صاحب الهدية الشيخ زايد يبدو مبتهجاً ضمناً لأن العاصمة اللبنانية شهدت ما كان يتمناه لعاصمة دولة الامارات العربية المتحدة، وان كان ضمناً لا يجد اجابة مقنعة عن الاجتهاد الذي كان في غير محله ويتعلق بحجب كلمة الرئيس الفلسطيني المحاصَر ياسر عرفات التي كان سيبثها فضائياً ويسمعها المشاركون في القمة في جلستهم الافتتاحية. ولو ان القمة كانت ستنعقد في ابو ظبي ولا يتم تجييرها الى لبنان لكان الشيخ زايد وضع شاشات في ساحات ابو ظبي وبقية الامارات تبث الكلمة بضع مرات طوال ايام المؤتمر وليس فقط يتم بثها داخل القاعة التي جمعت رؤساء الوفود في يومين يمكن ان يصبحا من الايام العربية المضيئة خصوصاً اذا تمت صيانة المبادرة ورعايتها وتطويرها والحاقها بجهود كتلك الجهود التي حدثت داخل القمة الى ان يثمر اعلان العرب سلامهم على اميركا واسرائيل قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس وانسحاب اسرائيل الى حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967 في كل من الجولان وفلسطين وجنوب لبنان، وإلاَّ فإن انسحابها من المنطقة سيصبح هو المطلب وهو القضية، وبالذات في ضوء تداعيات حرب الابادة الشارونية التي تتفرّج عليها الإدارة الاميركية وتشاركها التفرُّج عشرات الدول... وكأنما إبادة شعب يريد التحرك وطرد المحتلين الذين يعبثون بالمقامات الاسلامية والمسيحية في القدس وبيت لحم ومدن فلسطينية اخرى، هي من المسائل التي فيها نظر.