العمليات الانتحارية

TT

من الانصاف القول ان قطاعا كبيرا من الرأي العام العربي وحتى الفلسطيني يتفهم حالة اليأس والاحباط التي تدفع شبانا فلسطينيين الى تفجير انفسهم في اي اهداف في المدن الاسرائيلية بصرف النظر عن المكان او هوية الضحايا. ولكن هذا القطاع الصامت لا يستطيع ان يهضم هذا الاسلوب من زاويتين، الاولى تتعلق باستهداف المدنيين، والثانية تجنيد شباب صغار متحمسين لتفجير انفسهم بهذا الشكل.

وقد يبدو هذا كلاما صعبا في ظرف الاعصاب فيه ملتهبة من جراء ما حدث على يد القوات الاسرائيلية في الاراضي المحتلة من اقتحامات واعدامات وعدم تمييز بين المدنيين والمقاتلين والاعتقالات، ومحاولة قلب الحقائق لصرف الانظار عن السبب الحقيقي للأزمة، وهو الاحتلال الجاثم على انفاس الفلسطينيين، والتلاعب بالاتفاقات الموقعة واستمرار سياسة الاستيطان على حساب اصحاب الارض.

لكن حتى في احلك اوقات الازمات يجب ان لا يغيب العقل، والقدرة على اجراء حسابات الربح والخسارة في مسيرة كفاحية لشعب يتطلع الى الاستقلال وتحقيق حريته.

وقبل ان يدخل العالم في جدل حول هذه العمليات التي تتفاوت حولها التعريفات حسب الموقف الفكري والسياسي، كان الجدل مستعرا حولها حتى في العالم العربي، وما زال، فهناك البعض الذي يعتبرها الاسلوب الذي حقق التوازن الاستراتيجي بين الفلسطينيين الذين لا يملكون سلاحا، والاسرائيليين المدججين بمختلف انواع السلاح، وهناك البعض الذي يرى ان خسائرها على الصعيد السياسي اكبر بكثير من مكاسبها.

وقد تكون هذه العمليات الانتحارية حققت للفلسطينيين نوعا من الانتقام مما يتعرضون له، لكن التوازن الاستراتيجي الحقيقي يتمثل في ارادة المقاومة ورفض الاحتلال، والتي يمكن التعبير عنها بأشكال وصور كثيرة، بينما لا يستطيع احد ان ينكر ان هذه العمليات ادت الى خسائر فلسطينية كبيرة على صعيد التأييد لقضيتهم بين الرأي العام العالمي الذي روعته احداث 11 سبتمبر، ووضعت ورقة في يد اسرائيل تحاول بها اقناع العالم بأن حربها تأتي في اطار الحرب العالمية ضد الارهاب، وتشبه المهاجمين الفلسطينيين بمنفذي هجمات 11 سبتمبر. كما انها خدمت اليمين الاسرائيلي المتطرف الذي استطاع تجميع الرأي العام الاسرائيلي الخائف حوله، وتصوير المعركة على انها معركة بقاء وليست مسألة انهاء احتلال.

ولا بد ان نلاحظ ان الموقف العالمي تجاه هذه العمليات موحد، لا فرق بين شرق او غرب تجاهها، فاللغة المستخدمة ضد هذه العمليات واحدة في موسكو وبكين وفي الامم المتحدة واوروبا، كما هي في واشنطن. ورسميا فانه لا توجد حكومة عربية واحدة تستطيع ان تعلن تأييدها لمهاجمة مدنيين، كما ان مسؤولين فلسطينيين عديدين قالوا انهم ضدها، والسلطة الفلسطينية اعتادت في اعقاب كل عملية اصدار بيان ادانة، وذلك قبل الاجتياح الاسرائيلي الحالي، واصدرت بيانا يدين العملية الاخيرة في القدس بعدما جرى تعليق لقاء عرفات وباول لحين اصدار هذا البيان. وحتى التيار الذي يدعم هذه العمليات ويروج لها يضطر في كل مرة ان يدافع عن نفسه اخلاقيا عندما يقتل اطفال او نساء او حتى عرب اسرائيليون من فلسطينيي .1948 واذا سلمنا بأن ما يحدث الان هو حرب حقيقية ردا للعدوان، وان الشعب الفلسطيني له الحق في المقاومة بالأشكال التي يراها مناسبة له بما في ذلك المقاومة المسلحة، فاننا يجب ان نسلم بأن الحرب لها قواعدها ايضا، وأهم القواعد المتعارف عليها عالميا عدم استهداف المدنيين بشكل متعمد. ولا جدال في ان الجيش الاسرائيلي ارتكب مخالفات واضحة لهذه القواعد في المخيمات الفلسطينية، ومن خلال اعدامه مقاتلين استسلموا، او هدم المنازل على رؤوس اصحابها، وهو سقوط اخلاقي حقيقي، لكن الرد عليه ليس بمجاراته وانما بفضحه والعمل على محاكمة المسؤولين عنه.