زائر الضحى

TT

فيما يقبع نبيل خوري في غرفة صغيرة من منزله في رأس بيروت، تنسحب صورته قليلاً قليلاً من ذاكرة الناس الذين قرأوه وأحبوه وسمعوه. لكن تلك الصورة الطيبة ابداً، الباسمة ابداً، يكبّرها الحنين في ذاكرة اصدقائه وزملائه، يوماً بعد يوم. انها، بالنسبة الينا، مثل صورة معلقة على الجدار، لا يكبر صاحبها ولا يحجب ابتسامته تجهّم، ولا يغضبه غضب. واذ يستكمل نبيل خوري عامه الثاني في الغيبوبة، بعيداً عن صحبة القلم الذي عشق والورق الذي اهرق، يشتد من حوله حصار الذات ويرتفع على اسواره الأسى.

قبل مصابه بأشهر قليلة، كنت اقف معه على شرفة منزله، فرأى قطعة صغيرة من الارض يعلوها التراب والحصى وفوضى الاعشاب. وفي المرة التالية وقفنا على الشرفة، فرأيت رجالاً يعملون وازهاراً تزرع واشجاراً تغرس. وقال لي نبيل «لقد اتصلت برئيس بلدية بيروت، وقلت له لماذا لا يكون جمال حيث يمكن ان يكون».

منذ عامين لم يعد يخرج الى الشرفة، وتحول المكتب الذي كان عالمه، يعلق على رفوفه رواياته ومجلدات المجلات التي اصدرها، تحوّل الى غرفة عناية خاصة وسرير طبي وامصال معلقة. ولم يعد يأتي زائرون الى رهين المحبس في رأس بيروت. وازهار الحديقة كبرت وصارت هي تتفقد الشرطة بلفتاتها الحانية، وصاحبها لا يطل ولا يلوّح.

الاسبوع الماضي جاء الى رأس بيروت زائر له في ذاكرة نبيل خوري موقع سنبلة الحنطة التي يولد الانسان في برجها، او تولد في برجه. جاء الرجل الى بيروت لنهار واحد. او بالاحرى لساعتين. جاء يعود أخاه، الامير نواف بن عبد العزيز في مستشفى الجامعة الاميركية. من هناك ذهب الى رأس بيروت، حيث تقوم حديقة صغيرة للبلدية يقيم فوقها حبيس الغيبوبة.

تفاجأ كثيرون، وتتالت الاتصالات الهاتفية في بيروت تستفسر بعلامات التعجب لا بعلامات الاستفهام: «هل صحيح ما سمعنا؟ هل حقا جاء؟». لم يفاجأ بزائر الضحى، على الاطلاق، نبيل خوري. ومن تحت اجفانه المرتجفة رآه يدخل، يسبقه ظله العملاق وصوته الهادئ المطمئن. وزادت اجفان نبيل ارتعاشاً. انها اول مرة لا يقدر ان يقول فيها للامير كل ما يريد ان يقول. ولقد كان يريد ان يقول: «لم اتمنّ الوعي في حياتي مقدار ما تمنيته الآن. فقط من اجل ان اصف لك ماذا يعني ان تعود هذا البيت الصغير. فقط كي اصف لك كم يتضاءل الامتنان مهما كبر امام مثل هذا التواضع».