حرب جنين ونابلس: أخطاء في استراتيجية المقاومة

TT

«لقد قتلتم أمي وشقيقي في بيتي، ودمرتم البيت فوق رؤوسنا، وما زلنا مجرمين وارهابيين؟!»، لم يجدوا في بيت عبد الله الوشاحي سلاحا. كانت كل جريمته انه ظل يتعايش عدة أيام مع الجثتين، ريثما تنتهي قوات شارون من «تطهير» مخيم «جنين». وقد استلزمت «الجريمة» المثول امام هيئة التفتيش والتحقيق للاجابة عن اتهامها له بالارهاب.

ولم يكن الوزير كولن باول في طائرة الهليكوبتر الاسرائيلية التي قتلت والدة عبد الله وشقيقه وهما داخل البيت. لكن وزير الخارجية الاميركي كان محمولا على هليكوبتر اسرائيلية أخرى وهي تحوم به فوق مكان العملية الانتحارية في القدس الغربية، ليرى رأي العين «الخراب» الذي احدثته الشابة الفلسطينية. وحال أدب الجنرال باول وحياؤه أمام «هول» العملية الانتحارية دون ان يسأل حامليه ان تحوم به الطائرة فوق مخيم جنين، ليرى ايضا رأي العين آثار الزلزال الهمجي الذي نزل به.

وسارع الرئيس بوش الى ادانة ما فعلته الفتاة الفلسطينية القادمة من المدينة الشهيدة جنين. وتباكى على ستة اسرائيليين قتلهم «إرهاب» عرفات. ويبدو انه هو ايضا اصيب بأدب باول وحيائه، فلم يسأل صديقه شارون عن «مئات» الفلسطينيين الذين قتلتهم قواته في جنين ومخيمها. نعم، «مئات» باعتراف الكولونيل نيتسان ألون الذي يزور مع نيتانياهو أميركا حاليا للدعاية «لإنسانية» الاجتياح الاسرائيلي للمدن والمخيمات الفلسطينية.

كان الشرط الأميركي ليحظى عرفات بلقاء باول هو ان يدين الزعيم الفلسطيني العملية الانتحارية. لكن الوسيط الاميركي العادل لم يشترط للقاء شارون ان يدين رئيس الوزراء الاسرائيلي همجية اجتياح قواته لنابلس وفلسطين. بل تم اللقاء على الرغم من ان شارون ألحق إهانة قاسية ببوش عندما رفض سلفا الانسحاب من المدن والمخيمات المحتلة.

لقد بات عرفات هو الآخر مثالا حيا للزعامات والقيادات العربية التي صدّقت على مدى قرن كامل العهود والوعود الغربية للعرب بالسماح بإقامة وحدة قومية أو تحقيق استقلال وطني. لقد تخلى عن البندقية منذ خمسة عشر عاما وهادن وصالح وسالم وساير، وانتهى أسيرا محاصرا متهما بالإرهاب، ورهينة لدى الاسرائيليين والاميركيين للضغط عليه لانتزاع التنازلات منه بمكيافيلية غادرة ولئيمة، وبلا أخلاقية وبلا رحمة له وهو شيخ عجوز ومريض في الثالثة والسبعين من العمر.

عرفات ليس مصالي الحاج الزعيم الجزائري الذي قبل بأنصاف الحلول مع الاستعمار، ثم جاءت الثورة الجزائرية لتتجاوزه ولتفرض التحرر والاستقلال بالمقاومة والتضحية بالدم والحياة. فما زال عرفات في صميم اللعبة السياسية وزعيما بلا منازع لشعبه، بل هو الديبلوماسي العربي الأكثر شهرة وخبرة ومهارة وحظوة على المسرح الدولي.

واذا كان عرفات يجسد السلطة الرسمية والسياسية الشرعية التي لا تسمح له بقيادة المقاومة الفلسطينية مباشرة، فقد اظهرت حرب جنين ونابلس أخطاء في استراتيجية المقاومة تنعكس سلبا على النضال الفلسطيني المسلح.

وأحسب ان تعداد هذه الأخطاء لا ينال من التقدير العالي لبطولة وتضحية شعب أعزل. ومصارحة الفلسطينيين بها ليست لاحباط معنوياتهم المرتفعة او لجرح الكبرياء العربية المتفرجة، وإنما لتصويب وإحكام النضال ضد اشرس احتلال استيطاني مسلح ومدعوم بحماية وتأييد اكبر قوة دولية.

يبدو أن القيادات الميدانية الفلسطينية الشابة من نضالية أو جهادية، قد اختارت العمل المسلح، أو بالأحرى قد فُرض عليها بإخفاق العملية السياسية وبعنجهية الغطرسة الاسرائيلية. لا أناقش هنا صحة الاختيار، فكثيرون يرون في الكفاح السياسي أو السلبي (الحجر) وسيلة أنجع من الرشاش والانتحار للوصول الى الهدف.

لكن ما دام الكفاح المسلح هو الخيار، فهذا لا يمنع من بيان الأخطاء الفادحة في تقنيته الفلسطينية وذلك للتنبيه والتحذير. ولعل أول ما اظهرته حرب المدن والمخيمات غياب القيادة المركزية القادرة على التخطيط والتنسيق وفرض وحدة العمل الميداني على فصائل المقاومة.

أقول ان غياب القيادة المركزية الميدانية حَكَمَ مسيرة الكفاح المسلح الفلسطيني منذ عشرينات القرن الماضي، وأدى الى فشل ذريع في مواجهة قوة الانتداب البريطاني والمليشيات الصهيونية. من فوزي القاوقجي وسعيد العاص وعز الدين القسام واحمد عبد العزيز وعبد القادر الحسيني وحسن سلامة الى البرغوثي و«حماس»... فقد عملت هذه القيادات العربية والفلسطينية على أرض فلسطين، دون تنسيق وأحيانا في منافسة وسباق بينها، الأمر الذي أتاح سهولة ضربها وتصفيتها ميدانيا.

الأهم من الغياب المركزي ان العمل الفلسطيني المسلح تميز تاريخيا أيضا بظهوره على السطح، فكان سهلا صيده وقنصه. استراتيجية المقاومة المسلحة تفرض العمل بالمبدأ التقليدي «اضرب واهرب». ففيه شقاء واستنزاف لقوة القهر أو الاحتلال مهما كان سلاحها وجبروتها.

كان قرار القيادات الميدانية بالبقاء والصمود في المدينة القديمة في نابلس وفي مخيم جنين الصغير بطوليا، وفي الوقت ذاته كان انتحاريا. لقد تكبد العدو خسائر كبيرة، لكن جرت عملية تصفية وإبادة جماعية للمقاومين، ولا سيما بعد استسلام قوات اللواء الرجوب في طولكرم وقلقيلية دون مقاومة تذكر، ودون أي تنسيق مع المقاومين في المدن والمخيمات الأخرى المنكوبة.

القرار بالدخول في حرب مباشرة وجها لوجه مع عدو أقوى، فرصة كبيرة له لمحاصرة القوى الخفيفة المحركة. كان من الأفضل الانسحاب حتى ولو اعتبر قرارا جبانا في رؤية أهل نابلس وجنين.

كان الانسحاب لتأمين حياة المقاومين أفضل من التمترس في مناطق ضيقة مساحة مأهولة بشريا. فلم يتمكن العدو من إبادة المسلحين فحسب، بل أعطى نفسه الذريعة لانزال خسائر كبيرة بالمدنيين، وتدمير بنى ومرافق الحياة اليومية في أكثر المناطق الفلسطينية بؤسا وفقرا، وفي أشدها حاجة للصمود المدني وللتشبث بالأرض ضد محاولات التهجير الاسرائيلية.

ليس الغرض من المقاومة إتاحة الفرصة للعدو لكي يدمر الحياة المدنية وقلب مدن الضفة وغزة فوق اهلها. شيشنيا ليست انموذجا للمقاومة. فاختباء مقاتلي الحركات الأصولية هناك داخل المدن مكنّ الروس من تدمير كل ما حققته التنمية والتطوير في نصف القرن الأخير.

ربما لو انسحب المقاتلون باكرا من نابلس ومخيم جنين لخففوا كثيرا من عناء السكان المدنيين، ووفروا عليهم بطش الآلة الحربية الاسرائيلية بهم واستدارتها نحوهم بعد تصفية جيوب المقاومة في الأحياء.

بيروت، وليس نابلس أو جنين، مدينة صالحة لقتال المدن بحكم ابنيتها وأبراجها العالية وزواريبها المتلوية. لقد أذلت المقاومتان الفلسطينية والسورية شارون طيلة ثلاثة شهور عاجزا عن اقتحام بيروت الغربية، على الرغم من القصف الوحشي بالطيران والصواريخ.

الكلاشنيكوف لا يكفي لقتال المدن. كان لا بد من الكاتيوشا الفلسطينية الشهيرة والصواريخ الصغيرة المضادة للدروع. كان لا بد من تلغيم أكثف وأدق تقنية للشوارع والطرق والأزقة الضيقة في نابلس وجنين. فتدمير دبابة أو مركبة واحدة كاف لعرقلة تقدم رتل دبابات. وقناص واحد في بناء عال قادر على تعطيل وترويع كتيبة مشاة. وهذا هو السبب في ان المقاتلين الأشاوس خلال الحرب اللبنانية لم يحققوا اختراقات تذكر في بيروت، وظلت الحرب هناك على شكل «شيش بيش» في لعبة الطاولة.

وإذا كان لي أن أهمس في أذن المقاومة الفلسطينية، لقلت ان الساحة الوطنية مخترقة.. مخترقة.. مخترقة. كانت الجاسوسية حرفة يهودية في تاريخ الحروب، ووصلت هذه الحرفة السامة الى ذروة تقنيتها وذكائها في الدولة العبرية. وسخرت أجهزتها الأمنية جهدها وخبرتها طيلة مائة سنة لتربية جيل بعد جيل من المخابراتيين وأيضا من العملاء المحليين تخترق بهم ساحة فلسطينية صغيرة وفقيرة ومقاومة كانت الى حد قريب شديدة التباهي والتفاخر علنا بإنجازاتها. الصمت المتواضع يحمي المقاومة، ومكافحة العملاء واجب وطني في مثل هذه الظروف، في إطار القانون والأدلة الدامغة وليس على الشبهة أو الوشاية.

يبقى أن أقول، بعد هذه الرؤية المختلفة لحرب نابلس وجنين، ان الحرب بالنظارات أمر هين. وقد أكون متهما بأني أحارب بمنظار بعيداً عن ساحة المعركة وغير مقدر للظروف على الأرض. والجواب: ربما، لكن أود أن أذكر بأن ليدل هارت لم يخض حربا ولم يحضر معركة، وتمكن من وضع دراسات عن الحرب العالمية الثانية جعلته في مقدمة استراتيجيي المعارك والحروب.

وأنا أطلب الصفح إن أخطات، ولا أنشد الشكر على واجب إن أصبت.