انتفاضة القبر والكفن

TT

يروي العالم النفساني اريك فروم حكاية شخص يظن نفسه دجاجة، وكلما رأى كلباً انتابه الهلع، ظناً منه أن الكلب على وشك أن يفترسه. وبعد معالجة نفسية مضنية، اقتنع ذلك الشخص بأنه ليس دجاجة، وإنما هو إنسان كامل الإنسانية، فخرج من عند المعالج النفسي مسروراً، محبوراً يرفل بإنسانيته وشفائه. ولكن ما كاد يصل إلى الشارع حتى رأى كلباً، فانتابه الخوف مجدداً، وهرول صعداً إلى المعالج النفسي مستفسراً ومستوضحاً: «أنا مقتنع بأنني لست دجاجة، ولكن هل الكلب يعرف أنني لست دجاجة؟».

ونسأل من الدجاجة في الشرق الأوسط، وأين الكلب، ومن هو المعالج النفسي، وما الذي يجعلنا فراخاً على موائد اللئام الذين يموتون من فرط التخمة. ولماذا نريد من الكلب ان يصدق بأننا لا ننتمي إلى فصيل الدجاج، ما دمنا أنفسنا نشكك في ذلك؟

ليس فيما نقول تهجماً على أي نوع حي كان، إنما مجرد لفت نظر عابر لما يمكن ان ينزلق إليه إنسان يجهل كينونته، ويضيّع مفرداته أو عنوان المرحلة التي يعيش. ففي الزمن العثماني قلنا ونحن نغلق بابه خلفنا إننا نخرج من زمن الانحطاط. فهل ودعنا الانحطاط لندخل في زمن الإحباط؟

بعد عشرات العقود من الانهيارات يبدو الغليان الشعبي الراهن غير كافٍ وحده «لإخراج الزير من البير»، وان كان مفيداً لتحريك ما ركد. ها هو الضمير العربي في الشارع، الخوف العربي في الشارع، وأشياء أخرى هي أيضاً في الشارع. الغضب على الأسفلت والأرصفة وشرفات المباني وأسطحها. انه غضب معتّق ومكتنز بالتوتر لكنه مغلول اليدين ومصّر على الانخراط في طقوسية الحزن الجماعي، تماما كما هي الأفراح، لا تكون إلا جماعية. فهل تتحول فلسطين إلى «كترسيس أرسطي» نكتفي منه بما يطهر الضمائر والمواقف؟ أي هل تصبح حكاية فلسطين مسرحية من لحم ودم لكنها لا تتعدى حدود خشبة المسرح؟

حكاية الإنسان الدجاجة تحيل إلى أسئلة حول الخنوع اللاواعي أو الشعور بالضعف رغم القوة، والعجز رغم الامتلاء بالصحة. فالنقاش اليوم جوهره ومقصده «ما باستطاعة العرب أن يفعلوه لمواجهة واحدة من أصعب المحن التي تضرب نخاعهم الشوكي؟».

الاقتراحات كثيرة والإجابات عنها أكثر من مثيرة. ففتح الحدود مع إسرائيل أمام المقاتلين انتحار، قطع العلاقات الدبلوماسية مع الأعداء غير ممكن، استعمال سلاح النفط مطلب غير واقعي ومردوده سلبي، مدّ الفلسطينيين بالأسلحة متعذر، سحب رؤوس الأموال العربية من أميركا وهم جميل، مقاطعة البضائع الاميركية إجراء غير فعال، بيع البترول باليورو اقتراح هزلي، اتخاذ موقف عربي موحد وصارم طموح مؤجل، إطلاق حرية التعبير عن المشاعر هو تشجيع لسلوك غوغائي وإخلال بالأمن العام، الاعتراف بمشروعية الغضب موافقة على انفعالية معيبة وسلبية، تأييد العمليات الاستشهادية يجرّ نقمة الأمريكان، واللائحة طويلة، وبنودها كلها ليس لأحد فيها حيلة. لكن العجز ليس تاماً، ولا كلياً، إذ بقي لكل مواطن إمكانية أن يتابع المجازر الإسرائيلية بتفاصيلها الدقيقة، مع تعليقات وتحليلات وافية، وبإمكانه ان يبكي ويصرخ وينتحب ما حلا له عبر الفضائيات، التي فتحت شاشاتها لهذا الحق الشرعي الذي كفلته له العولمة.

مأساة من هذا النوع المربك ـ حيث ارتخاء المفاصل نفسي بالدرجة الأولى والعجز نهج تفكير وفلسفة وجود ـ لا ينفع معها ان يردد واحدنا كلما خلا إلى نفسه المقولة الشهيرة: «كل البلية من الساسة والسياسة» فالخلل، على الأرجح بنيوي يطال تفاصيل حياتية صغيرة، تماماً، كما يضرب قرارات أو لاقرارات سياسية كبيرة. وبأيهما يبدأ الإصلاح، هو سؤال معضلة، يأخذ إلى دوامة لا نهاية لها، كالتي دخل فيها النحويون العرب يوم انخرطوا في بحثهم المضني لمعرفة ما إذا كان المصدر ابن الفعل أم ان الفعل هو ابن المصدر.

وتوفيراً للجهد والوقت والمزيد من الخيبات، قد يليق بحالتنا، الرجوع إلى شخصية «كانديد» التي اختلقها فولتير. ومفردة «كانديد» معناها لغوياً «ساذج» أو «بسيط»، لكن فلسفة فولتير كلها تجسدت في كلمات بسيطة خرجت من فم هذا الرجل، واستطاعت ان تكون مؤثرة، ليس في مسار الحياة السياسية في فرنسا وحدها وإنما في العالم كله. والثورة الفرنسية تعرف فضله عليها. فلنتقمص، إذن، سذاجة كانديد، ولنطرح أسئلتنا على البداهة، على ما لا يثير، في العادة، غريزة استفسارنا وحشريتنا. لنتساءل مثلاً، لماذا تكرهنا أميركا، بدل ان نوظف عشرين سنة إضافية، يشرح خلالها واحدنا للآخر، لماذا نكره نحن أميركا. والإجابة ليست بالضرورة معقدة، أو هي كذلك، لكنها تختزل بالمثل الشعبي البسيط القائل «الضعيف لا يُحَب». وهي عبارة متواضعة لكن العمل بها قد يترتب عليه انقلاب جذري في منطلقات التفكير ودوافعها. لنتوقف عن استعراض مكامن ضعفنا ولنقل ان بلادنا شاسعة تلونها الشمس بكل أطيافها، عندنا الماء والصحراء والجبال، وعندنا الخضرة والتاريخ، وعندنا خيرات فوق الأرض وتحتها، ولنا ثروة بشرية والشعب خصب ومنجاب، وبيننا شخصيات طامحة وفاعلة وعاملة. ولنا كل ما يبرر ان يكون للفلسطينيين وطن، لماذا ليس للفلسطينيين خمس وطن، يمارسون على أرضه الصغيرة رغبة ابن سينا في ان يعيش حياته بالعرض لا بالطول، خاضعة لحساب الزخم النابض لا لمحدودية الأمتار المربعة. لماذا ترانا، كتلامذة المدارس النجباء، نطلب إذنا مسبقاً ليسمح لنا بتعريف الإرهاب. لنعّرف الإرهاب كما يليق به ان يعرف، ولنجعل رأينا، رغم انف الجميع، كما أسطوانة لأم كلثوم، نكررها بلا كلل. فكل مكرور يترك أثراً يشبه ثقباً، تتركه نقطة ماء ملحاحة وعنيدة في صلابة الصخر. وليثقب هذا التعريف، المحرم علينا، صخرة هذا العالم الأصم. لماذا لا نريد ان نصدق أننا امة قوية، حية، فتية، وان من يظن فينا الموت عليه ان يشك في صحة عينيه لا في جسدنا؟

العرب إبان النهضة بحثوا عن شخصية تمثلهم أو تخطب باسمهم فاستخلصوا من رصيدهم التراثي المتنبي، ولعلهم أخطأوا لأسباب وأصابوا الاختيار لأسباب كثيرة أخرى. أما نحن، فلربما، أصابتنا، اليوم، في الصميم مقولته:

كم قد قتلت وكم قد متّ عندكم ثم انتفضت فزال القبر والكفن.

فهذا الحجر المنتفض في فلسطين محكوم عليه بالنصر، ومحكوم عليه أن يوزع عدواه في الجوار. فمن تعنّى نال، أبدا، ما تمنى.

ولكن أليس من واجبنا، بالدرجة الأولى، وكي نسهل المهمة، أن نعي، يقينا، أننا لا ننتمي إلى فصيل الدجاج.

[email protected]