هل تخدعنا واشنطن.. أم أنها عاجزة عن ردع إسرائيل؟

TT

رافقت زيارة وزير الخارجية الأمريكية إلى منطقة الشرق الأوسط في المبتدأ بعض الآمال في أنها لن تضع حداً للمجازر التي يرتكبها شارون فحسب، وإنما سيتزامن معها الانسحاب الفوري، وستؤدي بالضرورة إلى وضع الإطار الزمني للحل النهائي، خاصة أنه يجيء إلى المنطقة معززاً بتصريحات في منتهى القوة للرئيس بوش، وقرارات مجلس الأمن. لكن باول لم يتوجه مباشرة إلى بؤرة الصراع، مما خفض الآمال وجلب التساؤلات بأن الأمريكيين يمنحون شارون فسحة من الوقت كي يجهز على مخيم جنين الذي صمد أكثر مما كان متوقعاً! وبالرغم من ذلك، رجح البعض احتمال أن يكون باول أراد أن يتزود بقوة إضافية عندما التقى في مدريد بالاتحاد الأوروبي والخارجية الروسية وأمين الأمم المتحدة، حيث صدر بيان يؤمن على ما صدر من الرئيس بوش ومن مجلس الأمن بضرورة الانسحاب الفوري وقيام الدولة الفلسطينية وزعامة عرفات باعتباره الرئيس المنتخب من الشعب الفلسطيني.

ولم يتأخر الرد الشاروني حتى يصل باول كما تقضي الأعراف، وإنما سارع بإعلان رفضه للبيان، وكرر: انه أبلغ الأمريكيين أنه لن ينسحب إلا بعد تدمير البنية التحتية للإرهاب. ومع ذلك لم نسمع كلمة واحدة لا من بوش، ولا باول، ولا الاتحاد الأوروبي، ترد على شارون ناقدة أو مستنكرة لما قاله، ناهيك من أن تحذره بأية عواقب قد تترتب على ذلك الرفض! ولا ريب أن الأسوأ هو أن كولن باول وصل إلى إسرائيل والمجازر ما زالت ترتكب عوضاً عن أن يكون الجيش قد انسحب. والانكى، أنه في مؤتمره الصحفي بعد لقاء شارون لم يفتح اللّه عليه بكلمة واحدة ولو على استحياء عن المتطلبات التي حملها بيان مدريد ولا حتى كلمة تعبر عن الأسى لما دار ويدور، وإنما تحدث عن الصداقة الوطيدة والعلاقة الحميمة مع إسرائيل والتي وصفها بأنها لن تنكسر، بينما كان شارون يرحب به قائلا: أرحب بك في القدس العاصمة الموحدة والأبدية لإسرائيل.. مما يعتبر زيادة في التحدي والاستفزاز! والأدهى والأمر من ذلك، أن باول توجه على عجل إلى زيارة تفقد فيها الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية حتى يقف على «انتهاكات» حزب الله و«عدوانه» على مناطق شبعا التي ما تزال تحتلها إسرائيل، بينما ضرب عرض الحائط بنداءات واستغاثات الفلسطينيين ليتكرم بزيارة مخيم جنين الذي شهد وما يزال يشهد أبشع المجازر الإنسانية عسى أن يبدي مجرد كلمات تواسيهم في قتلاهم الذين اعترفت مصادر الجيش الإسرائيلي أنهم بالمئات. أو يفعل ما هو أكثر من ذلك قليلا فيطلب من إسرائيل أن تأذن للصليب الأحمر بإغاثتهم ونقل جرحاهم! لكن الولايات المتحدة لم تكتف بكل هذا التجاهل المزري، وإنما ضاعفته عندما أعلنت عن تأجيل زيارة باول لعرفات لأجل غير مسمى في ما يبدو أنه استنكار للعملية الاستشهادية التي نفذتها فتاة وأودت بحياة ستة أشخاص. وفوق ذلك، سارع البيت الأبيض فأبدى الأسى والاستنكار لتلك العملية وطالب عرفات بإدانتها! حقاً، ان المفارقات الأمريكية تبدو بلا حدود، فقد كان البعض يتوقع ان مجرد أن تطأ قدم باول إسرائيل، فإن الانسحاب يكون قد تم أو على الأقل أن الحظر قد رفع عن رام الله ومقر الرئيس عرفات، فإذا بنا أمام تأجيل الزيارة نفسها فضلاً عن احتمالات الإلغاء، لأن عرفات لم «يوقف» أو يدين العمليات الاستشهادية! بينما لم نسمع أن الوزير باول قد تقدم بأي طلب من شارون! بكل تأكيد ليس بوسع عرفات أن يصدر مثل هذا البيان من محبسه وبدون أي مقابل، اللهم إلا إذا أراد أن ينتحر سياسياً أو ينحر القضية وهو الزعيم الرمز الذي تلتف حوله كل الأمة وليس الفلسطينيون فحسب.

لقد أصبحت القضية أكثر تعقيداً مما يتصوره الأمريكيون، فبالأمس قال شيخ الأزهر في صلاة الجمعة مفتياً: «إن هذه عمليات استشهادية، وليست انتحارية»!.. مما يعتبر تطوراً جديداً في الموقف نتج عن تصاعد البطش الإسرائيلي والتواطؤ الأمريكي، وبالتالي ليس المطلوب في هذه الظروف بكل ما يستصحبها من مجازر وامتهان لكرامة الإنسان الفلسطيني، أن تجرم مثل هذه العمليات أو توصف بأنها إرهابية. وعلى الأمريكيين أن يختشوا قليلاً ويمارسوا الضغوط المطلوبة على اصدقائهم الإسرائيليين ليوقفوا مجازرهم وينسحبوا من الأراضي المحتلة وعندها يمكنهم أن يطالبوا بوقف هذه العمليات الاستشهادية أو حتى الانتفاضة.

ان العالم كله يقف بين حائر ومستغرب إزاء التخبط الأمريكي، ويتساءل: هل الولايات المتحدة متآمرة مع إسرائيل؟ أم عاجزة عن ردها عما تقوم به من جرائم؟، وهل أصيبت بعمى ألوان بحيث لم تعد ترى أي فارق بين المقاومة والإرهاب؟ وحتى لو سلمنا بالرؤية الأحادية للإرهاب، فهل كل أنواع الإرهاب تعالج بالقوة العسكرية؟ أين اختفت الوسائل العديدة التي كانت تتحدث عنها الإدارة الأمريكية عندما أعلنت حربها على الإرهاب؟! كانت بعض التبريرات تقول بأن الشعب الأمريكي واقع تحت تأثير اللوبي اليهودي، ولذلك فإن الحكومة مضطرة لمسايرة الانحياز لإسرائيل، وهو منطق فيه الكثير من الاعوجاج، لأن الدولة العظمى مسؤولة عن تنوير شعبها وقيادته إذا كانت ترى أن هناك من يضلله! وما لم تفعل تكون مقصرة وعلى الأقل ليست جديرة بأن تكون الدولة العظمى في العالم. ومع ذلك، نقول إن آخر الاستبيانات قد أبانت أن 39 بالمائة يرون في ما تقوم به إسرائيل من مجازر هو أعمال إرهابية وأن 41 في المائة يرون أن أعمالها غير مبررة، ومع ذلك فإن الإدارة الأمريكية متضامنة مع إسرائيل مائة في المائة وليس ستين أو سبعين في المائة مما يعتبر تجاوزاً حتى لأوزان الرأي العام! لعل أكثر ما يثير الاستغراب هو أن رئيس الولايات المتحدة يقول: «أريد انسحاباً الآن، وأنا أعني ما أقول»، ولا يجد استجابة من إسرائيل فحسب، وإنما يعلن رئيس الوزراء رفضه ولا يحرك ذلك ساكناً لدى رئيس الدولة العظمى! أين هيبة الرئيس بوش؟ يستحيل أن يكون قد قال ما قال لمجرد تخدير العرب بينما هو القادر على إجبار إسرائيل على الانسحاب! البعض أخذ يتشكك في تلك القدرة ويعتقد أن بوش أعجز من أن يواجه تحدي إسرائيل، وان كل ما كان يقال عن أن أوراق القضية بنسبة %99 بيد أمريكا ليس صحيحاً، واننا نعطي للولايات المتحدة حجماً أكبر مما تستحق، بل انها هي التي تخضع لإسرائيل لأن كل القيادات الأمريكية تخشى اللوبي اليهودي لأنه يمسك بالمصعد الذي يؤدي إلى كراسي السلطة وهو الممسك بكل الخيوط التي يمكن أن تطيح بالرؤوس سواء بالابتزاز بالقضايا المالية أم المسائل الأخلاقية إلى غير ذلك وليست قصة مونيكا ببعيدة عن الأذهان! أو وترجيت نيكسون طواها النسيان!، أو حتى كيف اسقط بوش الأب في الانتخابات لدورة ثانية بالرغم من أنه كان في قمة تألقه، لكنه قاوم بناء المستوطنات!، ولعل الابن استوعب درس ما لحق بالأب فاستسلم وسلّم! مهما يكن من الأمر فإن على العرب أن يتابعوا بعمق ما يجري على الساحة الأمريكية في هذه الظروف الملحة حول كل ما صدر عن الإدارة الأمريكية إزاء قضيتنا الأساسية ليتبينوا بجلاء ان كانوا يخدعوننا أو هم عاجزون بالفعل عن تنفيذ ما يطلبون من الكيان الإسرائيلي. وفي كلتا الحالتين، نحاول أن نبني مواقفنا ونقدر مسالكنا، ولا ينبغي أن نقع تحت وهم الحمائم والصقور وما إلى ذلك من مسائل جانبية لا تهمنا كثيراً، كأن يقال إن باول من الحمائم، لكن الصقور اختطفوا رحلته واستطاعوا مع شارون أن يحرقوه أو يحبطوا المقاصد التي أراد تحقيقها. نحن نتعامل مع دولة تعتبر الدولة العظمى في العالم، وبالتالي فهي لا بد أن تقدر مصالحها وتقدر أنه باستطاعتنا أن ننال من تلك المصالح إذا ما لم تحسب لنا الحساب الذي نستحقه.

وحتى نكون في هذا الموقف الصلب ينبغي ألا ندعها تستفرد بنا وان نوحد صفنا وكلمتنا، فقد بدا في الأفق بعض التصدع بين مواقف هذه الدول وتلك وعلينا ان نسد كل الثغرات، فنحن أمام لحظات حاسمة نكون أو لا نكون. وبالمثل نريد أن نضع أمريكا أمام خيار محدد مع الحق والعدل، أم مع الانحياز والاحتلال!