أمريكا تجاوزت السقطة الأخيرة في مجلس الأمن!

TT

كادت الولايات المتحدة الأمريكية أن تقع في السقطة الأخيرة نهاية الأسبوع الماضي عندما لوح سفيرها في الأمم المتحدة عن عزمها استخدام حق النقض في مجلس الأمن للحيلولة دون صدور قرار بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في المجازر التي ارتكبت في الأراضي الفلسطينية ومخيم جنين على وجه الخصوص.. كان ذلك التلويح بمثابة فضيحة، وفي ذات الوقت كان سيشكل نقطة فاصلة في العلاقات العربية ـ الأمريكية، ولعلني لا أبالغ إذا قلت إنه لو قدر لذلك التلويح أن يتحول إلى حقيقة، فإن الولايات المتحدة لن تغامر بمصالحها في العالم العربي فحسب، إنما تكون قد سجلت على نفسها بداية السقوط من علياء القطبية الأحادية التي تتربع فيها الآن على قيادة العالم، وكذلك تحالفها الدولي لما تسميه بمحاربة الإرهاب.

حقاً، لقد كان مثيراً للدهشة والأسى أنه في الوقت الذي لوح فيه مندوبها في نيويورك باستخدام حق الفيتو ضد تشكيل لجنة تقصي الحقائق، كان تيري لارسون ممثل الأمم المتحدة يخاطب الإعلام العالمي من فلسطين وهو يتحدث عن هول المأساة ويصف ما أصاب مخيم جنين بأنه زلزال، ويدين مسلك إسرائيل في الحيلولة دون وصول الاسعافات الطبية والمعونات الغذائية إلى المخيم، وكذلك كان وزير خارجية بريطانيا يشاطر مفوضية حقوق الإنسان في جنيف المطالبة بضرورة التحقيق في ما حدث ويدين المسالك الإسرائيلية. باختصار، كان أقل ما يطالب به كل العالم هو الوصول إلى المخيم وتقدير حجم الكارثة الإنسانية، ولذلك كان مستغرباً أن ترفض سيدة العالم المتحضر مجرد التحقيق في مجازر منسوبة إلى إسرائيل، اللهم إلا إذا كانت ضالعة هي فيها!. أما إذا كانت تراها مجرد مزاعم، فماذا يضيرها التحقيق، بل كان الأولى بها أن تبادر هي للمطالبة به تبرئة لموقف حليفتها المدلّلة!.

المهم أن الرئيس بوش استدرك الأمر في اللحظة قبل الأخيرة، وأعرب عن تأييده تحقيقاً دولياً تقوم به الأمم المتحدة بمشاركة الصليب الأحمر، بل ان الموقف الأمريكي تحول بالكامل من معارض إلى مقدم للاقتراح الذي أجازه مجلس الأمن. ونحن نحمد للإدارة الأمريكية هذا التحول، لكننا نريد للدولة العظمى أن تكف عن التأرجح وعدم الثبات والوضوح في سياستها لأن ذلك لا يليق بمكانتها ويضعف من مصداقيتها ويهز صورتها أمام العالم الذي تتباهى بقيادته.

بالطبع ان العالم كله شاهد وسمع الرئيس بوش منذ أكثر من ثلاثة أسابيع وهو يطالب إسرائيل بالانسحاب (الآن) من الأراضي الفلسطينية التي اجتاحتها، لكنه لم ير تجاوباً، بل سمع رفضاً حتى خلال وبعد زيارة كولن باول لإسرائيل!، بينما كان يتوقع استجابة فورية أو يرى ضغوطاً أو حتى شجباً، لكنه رأى المزيد من الاجتياحات للأراضي الفلسطينية والكثير من التراجع من جانب الإدارة الأمريكية وعلى لسان بوش نفسه الذي وصل تهالكه وصف شارون بأنه «رجل سلام» وبأنه راض عن خطوات الانسحابات التي كان حينما طالب بها كاملة والآن، كان ينقر باصبعه على الطاولة وهو يشدد على عبارة «الآن!».

في كل الأحوال، نأمل أن يكون في تدارك الرئيس بوش لموقف مندوبه في مجلس الأمن الخطوة التي لا تراجع بعدها عن الثبات على المواقف، لأن مجلس الأمن هو أحد أهم خطوط الضغط الأمريكي على إسرائيل، فإذا رفعت امريكا الغطاء عنها فإنها لا محالة ستواجه موقفاً دولياً لا قبل لها به، ولذلك كان مستغرباً تلويح مندوبها في مجلس الأمن بجانب إسرائيل عوضاً عن استخدام ذلك الغطاء في الضغط عليها ليس للاستجابة للتحقيق في ما ارتكبت من جرائم، وإنما في تسريع انسحابها وفي الحيلولة دون عودتها إلى الأراضي التي هي تحت السلطة الفلسطينية!. وأكثر من ذلك، فإن مجلس الأمن بوسعه أن يضع حداً نهائياً مفروضاً على إسرائيل في تطبيق قراراته التي تلزمها بالانسحاب إلى حدود 1967، لو أذنت له الولايات المتحدة بتطبيق المادة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة.

معلوم أن هذا الاهتزاز وعدم الثبات في مواقف الإدارة الأمريكية عائد في الأساس إلى انقسامات فيها بين الصقور والحمائم، ولكن عدم حسمه ينعكس سلباً على صورة أمريكا نفسها، ويحتسب دليل ضعف الرئيس نفسه، لأنه طوراً يميل إلى هذا الجانب، وطوراً إلى ذاك، بينما المفترض فيه أن يرجح هذه الكفة، ويكبح تلك، أو أن يتخذ خطاً وسطاً يلزم الجميع به، وما لم يفعل ذلك فإنه بلا شك يعرض قدرة بلاده في قيادة العالم إلى شك كبير وقد يعرض العالم كله إلى مخاطر لن تكون محسوبة إطلاقاً، وقد يصعب تدارك نتائجها لاحقاً.

وحتى لا نذهب بعيداً في التوقعات والافتراضات لنأخذ ما حدث بالأمس في مجلس الأمن ونقيس عليه مدى الانعكاسات التي كان من الممكن تصورها لو استخدمت الولايات المتحدة حق النقض، مما لا شك فيه أن العلاقات الأمريكية العربية كانت ستصل حد القطيعة وفقدان الأمل نهائياً في أن يتوقع منها أن تحقق أدنى درجة من العدل بالنسبة للقضية الفلسطينية، كما أن علاقات امريكا ستصاب بنكسة كبيرة مع حلفائها الأوروبيين الذين أوصى برلمانهم باتخاذ خطوات عقابية ضد اسرائيل، بينما امريكا تحمل راية الدفاع عن المجازر التي ترتكبها اسرائيل، قد تتفاوت هذه المواقف لكنها في مجملها لن تكون إلا على حساب العلاقات الامريكية ـ الأوروبية، خاصة بعد الاستخفاف الذي تجاوز كل حد من اسرائيل للاتحاد الأوروبي والذي وصل حد رفض السماح لممثل السياسة الخارجية خافير سولانا ومن معه من زيارة عرفات والسماح للممثل الأمريكي فقط بالزيارة! أو ما صاحب ذلك من تصريحات مسيئة للأوروبيين.

بالطبع ما كان للعلاقات الامريكية ان تستقر على حالها من الغليان وعدم الارتياح للتأرجح في السياسات، وإنما كان الانفلات هو المتوقع إلى درجة من الصعب تصور المدى الذي يمكن ان يبلغه، أو العودة بالعلاقات إلى مسارها بعدئذ في ظل استخدام حق النقض!.

لقد حاول العرب كثيراً رفع العتب عن الولايات المتحدة الأمريكية، بالإحجام عن تقديم مقترحات إلى مجلس الأمن، أو بسحب مقترحات تناصر الحق الفلسطيني، وهم في كل محاولاتهم تلك كانوا يتوقعون أن تقدر امريكا مواقفهم وان تضغط على حليفتها كي تستجيب لما هو مطلوب، وكثيراً ما خذلتهم امريكا بمجاراتها للتعنت الإسرائيلي.

وطالما أن الولايات المتحدة لا تريد أن تستخدم سلاح مجلس الأمن في وجه اسرائيل، ولا تريد ان تستغل مجرد التلويح به في إثناء إسرائيل عن تعنتها، فمن الواجب إذن أن لا يتحرج العرب في اتباع كل المسالك للوصول إلى مجلس الأمن، وعلى الولايات المتحدة أن تتحمل مسؤولية انحيازها الأعمى إلى إسرائيل، أو أن تحترم الإرادة الدولية وتتعامل معها بمعيار واحد.

إن الولايات المتحدة مطالبة اليوم وليس غداً بتحديد مفهوم «الإرهاب»، إذ يستحيل على العالم أن يتبعها وهي تحدده على هواها أو على الطريقة الشارونية التي تحاول أن تصنف احتلالها للاراضي الفلسطينية بأنه مقاومة للإرهاب، وان الفلسطينيين الذين يقاومون احتلالها بأنهم إرهابيون!. فالمقاومة حق مشروع كفلته كل الشرائع والأعراف وحتى مواثيق الأمم المتحدة، وما لم تنأ الولايات المتحدة من الشباك الشارونية التي تجعل من المقاومة وجها من أوجه الإرهاب، فإنها للأسف ستخسر حربها العالمية على الإرهاب. ووقتها لن تكون جديرة بقيادة العالم الذي سيفرز أقطابا يخلقون التوازنات التي عجزت عن المحافظة عليها، وسيكون جل، إن لم نقل كل اصدقائها، قد اصطفوا على الجانب الآخر!.