إيران النووية بين التخصيب والترهيب

TT

كم منا سمع سابقاً بوجود برنامج نووي إيراني مثير للجدل، كم منا يعلم حقاً أن البرنامج النووي الإيراني قد بدأ في منتصف خمسينيات القرن الماضي ولم يثر الجدل والمخاوف إلا خلال الفترة الأخيرة. هل حقاً أن الضجة مفتعلة ومصدرها الأعداء «الأمريكان والإسرائيليون»، أم أن مصدرها تغير السلوك الإيراني إلى منحى خطير؟

ولنترك الاعتراضات الأمريكية ـ الأوروبية ـ الإسرائيلية على البرنامج النووي الإيراني جانباً، ونحاول النظر إلى القضية بشيء من الواقعية. ومع التسليم بأن لكل من هذه الأطراف حساباته وسياساته تجاه طهران والمنطقة بصفة عامة، إلا أنه في محاولة للعودة من أجل البحث عن جذور هذه «الضجة المفتعلة»، كما يحلو لطهران وصفها، نجد أن أصوات الاعتراض لم تبدأ مع بداية البرنامج النووي «السلمي» في منتصف الخمسينيات، بل بدأت بعد مرور نحو خمسين عاماً من عمر البرنامج، أي في مستهل عام 2003 وبعد فترة قصيرة من اكتشاف الوكالة الدولية للطاقة الذرية وجود منشآت نووية حيوية لم تقم الحكومة الإيرانية بالإعلان عن وجودها مطلقاً، وهذا يُعَد خرقاً جوهرياً لالتزامات الدولة القانونية التي نصت عليها عضوية الوكالة الدولية تطبيقاً لمتطلبات معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية التي وقعتها وصادقت عليها الحكومة الإيرانية في عام 1970.

كان اكتشاف مفتشي الوكالة سر وجود منشأتي ناتنز وأصفهان، واللتين تم إخفاؤهما لفترة تجاوزت خمس سنوات نقطة تحول في موقف المجتمع الدولي تجاه الدوافع والأهداف الحقيقية للبرنامج النووي الإيراني. فعلى اثر اكتشاف وجود منشآت نووية غير معلن عنها، تم توجيه الاتهام للحكومة الإيرانية بكونها قامت بـ «الغش» وعدم الالتزام بمتطلبات وشروط المعاهدة الدولية ذات البعد القانوني الملزم. ويكمن بيت القصيد هنا في حقيقة أن سلوك الحكومة الإيرانية الذي افتقر إلى الشفافية كان هو المصدر الأساسي والحقيقي للقلق والضجة التي تعتبرها طهران «مفتعلة». وللعلم، فإن منشأتي ناتنز وأصفهان اللتين تم اكتشافهما في عام 2003 لعبتا الدور المحوري في إجراءات تخصيب اليورانيوم التي تم الإعلان عنها رسمياً خلال الأسبوع الماضي. ولا يكمن الخطر بمجرد وجود هذه المنشآت بل بحقيقة أن نشاطاتها لم تكن تخضع لنظام الرقابة والإشراف الدولي. وحاولت الحكومة الإيرانية ومنذ اكتشاف هذه المنشآت تأكيد أنها قررت تعليق عمليات تخصيب اليورانيوم بشكل طوعي، ثم عادت وأعلنت أنها قررت استئناف عمليات التخصيب، ولم يمضِ شهر واحد حتى جاء الإعلان عن نجاح عمليات التخصيب مما يقود إلى اعتقاد بأن إيران لم تعلق عمليات التخصيب كما أعلنت سابقاً في أي مرحلة من المراحل. إذاً، فإن المشكلة الحقيقية لا تكمن فقط بسلوك «أعداء الأمة الإيرانية»، بل في عامل انعدام الثقة بالنوايا والوعود الإيرانية نتيجة لتراكم أدلة قطعية تؤكد وبشكل قاطع أن إيران تحاول التملص من التزاماتها الدولية في إبقاء برنامجها النووي تحت إشراف الرقابة الدولية أو في بقاء البرنامج ضمن إطار الأغراض السلمية والمدنية. ولذلك، فإن القول إن تحرك المجتمع الدولي للسيطرة على طموحات إيرانية النووية هو مجرد «ضجة مفتعلة»، أو «مؤامرة من قبل الأعداء»، هو اختزال خطير للحقيقة ولوقائع الأمور.

واليوم وبعد الإعلان الرسمي والمهرجاني ـ الاحتفالي بانتصار إيران وتحقيق هدف تخصيب اليورانيوم خارج إطار الإشراف والمراقبة الدولية، ومع الأخذ بعين الاعتبار بعض الوقائع التي زعزعت الثقة في نوايا إيران النووية خلال السنوات القليلة الماضية، يبرز السؤال المحوري: من سيستطيع التيقن من وعود إيران الأساسية بكون عملية تخصيب اليورانيوم ستلتزم المعايير الدولية لإبقائها محصورة في الاستخدام السلمي لأغراض توليد الطاقة الكهربائية؟

وهنا تُثار قضيتان أساسيتان، الأولى، تتعلق بمن يستطيع أن يضمن أن الكمية التي سيتم تخصيبها من اليورانيوم لا تتجاوز حاجات الاستخدام الفعلي لأغراض توليد الطاقة الكهربائية؛ أما القضية الثانية فتتصل بمن سيستطيع ضمان كون نسبة تخصيب اليورانيوم لا تتجاوز النسبة المطلوبة للاستخدام السلمي، حيث أعلنت إيران رسميا أن عمليات التخصيب لن تتجاوز نسبة 3.5%، وهي نسبة تخصيب مقبولة لأغراض الاستخدام في مفاعلات توليد الطاقة الكهربائية. فهنا نتكلم عن البعد الكمي والنوعي لعملية التخصيب، وهو أمر من الصعوبة السيطرة عليه وبخاصة في ظل وجود هواجس لدى البعض من وجود نوايا غير صادقة وأهداف غير مشروعة للدولة. وفي هذا الصدد، يتعين التنويه إلى حقيقة خطيرة واجهها المجتمع الدولي على امتداد العقود الماضية، وتتمثل بواقع مرير مفاده أن جميع برامج إنتاج الأسلحة النووية بدأت تحت غطاء «الاستخدام السلمي للطاقة النووية»، وتم استخدام البرنامج المدني ذي الصفة العلنية والشرعية لتغذية حاجات البرنامج السري لإنتاج هذه الأسلحة.

ومن تجربة الصراع البرازيلي ـ الأرجنتيني، حول امتلاك وتطوير الطاقة النووية، برزت آلية واحدة أثبتت قدرتها الفعلية على منع تطور البرامج النووية السلمية إلى برامج عسكرية، تلك هي آلية إعلان المناطق الجغرافية كمناطق خالية من الأسلحة النووية أو أسلحة الدمار الشامل. فقد كان اللجوء إلى توظيف هذه الآلية عاملا أساسيا للحد من انتشار الأسلحة النووية في قارة أمريكا اللاتينية ومناطق جنوب شرق آسيا. فقد فرضت آلية المناطق الخالية نظاماً أمنياً إقليمياً فعالاً يبدد الهواجس والمخاوف، بالإضافة طبعاً إلى نظام المراقبة الدولية الذي أثبت جديته في فرض الالتزام على الدول الأعضاء بإبقاء برامجها النووية مسخرة للاستخدامات المدنية البحتة.

وفي أعقاب الإعلان الإيراني بنجاح عملية التخصيب، والذي تلازم مع تأكيدات إيرانية علنية على أعلى مستوى قيادات الدولة من خلال الإصرار على الاستمرار في تطوير وتوسيع نشاطات التخصيب، يقف المجتمع الدولي عبر آلية مجلس الأمن أمام امتحان عسير لمصداقية الدبلوماسية السلمية. فمجلس الأمن قد وضع، مجبراً أو مخيراً، في موقف محرج وزاوية ضيقة نتيجة الإعلان الإيراني الذي لا لبس فيه، والذي تم اختيار توقيته بشكل متعمد ليسبق مهلة الأيام الثلاثين التي حددها البيان الرئاسي للمجلس الصادر في التاسع والعشرين من مارس، والتي ستنتهي قانونياً في التاسع والعشرين من ابريل الجاري، ثم ليسبق الموعد المحدد لزيارة مدير الوكالة الدولية للطاقة النووية إلى طهران، وليسبق كذلك المحادثات الإيرانية ـ الأمريكية التي من المفترض عقدها حول الوضع في العراق.

وبغض النظر عن حسابات الآخرين بشأن البرنامج النووي الإيراني، فإن الدول الخليجية معنية أكثر من غيرها به بحكم القرب الجغرافي، مما يجعلها الأكثر عرضة للآثار البيئية والأمنية لهذا البرنامج. كما أن هذه الدول سوف تتضرر أكثر من غيرها في حال حدوث مواجهة مسلحة بين واشنطن وطهران بشأن الملف النووي. وإذا كان لإيران حق مشروع في امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية، فإن عليها واجب ومسؤولية طمأنة جيرانها بشأن الأبعاد الحقيقية لبرنامجها النووي بمنتهى الشفافية والوضوح. وإذا كان الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية قد سبق أن طرح مبادرة بشأن جعل منطقة الخليج خالية من أسلحة الدمار الشامل، فإنه من المناسب تفعيل هذه المبادرة وتطويرها، خصوصاً أنها لا تتعارض مع ما تعلنه طهران بشأن برنامجها النووي.

من المهم كذلك أن تنسق دول المجلس سياساتها وتبلور بدائل حركتها بشأن التعامل مع التطورات المحتملة للملف النووي الإيراني حتى لا تُفاجَأ بالأحداث، وبخاصة في حالة فرض عقوبات دولية على طهران، أو حدوث مواجهة مسلحة بين الولايات المتحدة وإيران بكل ما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات على الأمن والاستقرار في المنطقة. وإذا كانت التسوية السلمية لهذا الملف هي البديل الأفضل من وجهة نظر دول المجلس، فكيف يمكن لهذه الدول أن تفعّل من دورها في تعزيز الجهود الرامية إلى تحقيق هذا الهدف؟!من دون اتخاذ خطوات فعالة بشأن التعامل مع مستجدات الملف النووي الإيراني، ومبادرة إيران بتقديم الضمانات الكافية التي تؤكد الطابع السلمي لبرنامجها، وبخاصة في ما يتعلق بالمسألتين اللتين سبقت الإشارة إليهما، مع إخضاع منشآتها النووية للتفتيش والرقابة الدولية، من دون هذه الإجراءات وغيرها، فمن غير المستبعد أن تعلن إيران بعد سنوات عن نجاحها في امتلاك القنبلة النووية، وساعتها سوف تكون هناك حقائق ومعطيات وتوازنات جديدة في منطقة الخليج، وسوف تكون بالطبع في غير صالح دول المنطقة.

* كاتب سعودي ورئيس مركز الخليج للأبحاث [email protected]