السعوديون في مقر تدريب الإرساليات التبشيرية في مانشستر..!

TT

لا أظن أنه قد دار بخلد القساوسة النصارى، الذين كانوا يعقدون دورات تدريبية مكثفة لإعداد الإرساليات التبشيرية لتنصير المسلمين في العالم الإسلامي، أن المقر التاريخي الفخم والضخم العتيق في قلب مدينة مانشستر البريطانية، والذي كانت تجري في ساحاته وردهاته وقاعاته هذا العمل التبشيري النشط قبل مائة عام، سيصبح يوما ما مقرا لدورات تدريبية مكثفة، يشرف عليها ويديرها مسلمون بريطانيون، ولكن هذه المرة ليس لأهداف «تبشيرية» إسلامية، وإنما لهدف مد الجسور بين الحضارات المختلفة، والتواصل بين الثقافات المتنوعة التي صارت العلاقة بينها في الآونة الأخيرة تعاني من سوء في الفهم، وخلل في الاتصال منذ أن دكت الطائرات المختطفة أبراج منهاتن الأميركية، مرورا بالغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، إلى أحداث التفجير في الأنفاق اللندنية الصيف الماضي، وانتهاء بالشرخ العنيف الذي خلفته الرسومات الدنماركية المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

الخبر الذي نشرته مؤخرا الصحف البريطانية لمراسم تسليم السفير السعودي في لندن الأمير محمد بن نواف، لتبرع ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز بمبلغ مليون جنيه استرليني، لصالح شراء مقر لمركز التراث الإسلامي البريطاني في مدينة مانشستر، يتعدى كونه خبرا عاديا عن تبرع سعودي لدعم مركز إسلامي اوروبي، والذي تعودت على أمثاله الأقليات الإسلامية في الدول الغربية، إلى كونه دعما لتوجه جديد وبثوب جديد لآليات وخطط وأهداف جديدة تتجاوز الدور التقليدي للمراكز الإسلامية في اوروبا، التي تحصر أهدافها في نشاطات تقليدية تتعلق بخدمة الجالية الإسلامية دينيا واجتماعيا وثقافيا، وهذه بطبيعة الحال ضرورية لكنها مبتورة، إلى التفاعل مع المجتمع البريطاني المحلي، لان الإشكال المزمن لأغلب المراكز والمؤسسات الإسلامية تقوقعها على نفسها وتمحور نشاطاتها على جالياتها، وغفلت في غمرة نشاطاتها هذه عن التواصل مع المجتمع المحلي البريطاني، والذي برعت فيه جاليات أخرى كالجالية اليهودية والبوذية والهندوسية.

المسجد في هذا المركز الجديد يمثل جزءا يسيرا من مرافق المشروع التي ستعنى بتنفيذ الأهداف الكبرى، لتي غفلت عنها ـ كما اشرت آنفا ـ أغلب المراكز الإسلامية في الدول الغربية، بل إن في استراتيجية مركز التراث الإسلامي البريطاني معالجة نزعة التطرف التي بدأ يتأثر بها بعض شباب الجالية والتي قادت إلى تفجيرات لندن في الصيف الماضي، مما حدا بإحدى الزعامات البريطانية في مدينة مانشستر إلى القول «إننا في الحكومة البريطانية اعتدنا على تسلم الشكاوى من الجالية، أو الانشغال بحلول مشاكلها لكن من النادر أن تقدم الجالية لنا حلولا ومقترحات لمشاكلها، كما فعل هذا المركز الجديد في مانشستر».

الصورة الفوتغرافية التي نشرتها الصحف البريطانية لحفل تسليم السفير السعودي الأمير محمد بن نواف لتبرع الأمير سلطان لهذا المشروع الكبير، والذي يقع مقره التاريخي الضخم على مساحة تتجاوز الثلاثين الف متر، تختزل الدور المستقبلي المثالي لهذا المركز الكبير وتعطي مؤشرا قويا على النقلة النوعية في مهام المراكز الإسلامية، الصورة جمعت مع السفير السعودي في لندن وقيادات الجالية الإسلامية في المدينة من رجال اعمال وتكنوقراط وأكاديميين عددا من القيادات والرموز السياسية والاجتماعية والبرلمانية البريطانية، ومنهم «اللورد مير» أفضل خان عمدة مدينة مانشستر الشاب البريطاني الأربعيني المتدين الوسيم، والذي يرمز ترشحه لهذا المنصب الرفيع إلى أن التدين الحقيقي لا يفضي بالضرورة بشباب الجالية الإسلامية، إلى تلغيم أنفاق القطارات الأرضية ولا إلى رفع الشعارات المتشنجة لإقامة «الخلافة» على أنقاض 10 داوننغ ستريت، ولا إلى اعتبار أن التمتع بمزايا الحريات في الدول الغربية، لا يعدو أن يكون كرجل مر على مرحاض فقضى حاجته فيه فمضى..! هناك في الجاليات شباب وكفاءات متميزة ملتزمة بدينها وملتزمة بخدمة مجتمعها الجديد الذي انتمت إليه بغض النظر عن الاختلافات والاعتبارات.

وأخيرا كنت سأذكر شخصية إماراتية سياسية مرموقة حاكمة تبرعت هي الأخرى بمليون جنيه استرليني لهذا المشروع الحضاري الكبير، لولا أنها آثرت وتمنت أن تكون ممن شملهم الوصف القرآني «وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم»، ويبقى (فنعما هي) وصفا مرجوا لمن نشر وأعلن، إن سفينة هذا المشروع الحلم تعاني هذه الأيام صراعا من اجل البقاء. فقد بقي مليونا جنيه استرليني لشراء المقر التاريخي الضخم، فإما أن يدبرهها قبل منتصف مايو (أيار) المقبل أو الغرق.

[email protected]