إيران: حصاد الخوف

TT

ما كان مبررا أن يشعر العرب، أو بعضهم، بكل هذه المخاوف وبكل هذه القشعريرة إزاء التقدم الكبير الذي أُحرز في مجال القدرات النووية الإيرانية لو أن الأمور بين هؤلاء العرب وإيران سمنٌ على عسل ولو أن العلاقات بين الدول العربية المطلة على الخليج وبين هذه الدولة الاسلامية بدون أي منغصات وكالعلاقات مع باكستان التي، والحمد لله والشكر له، تمكنت من إنتاج سلاحها النووي في السنوات الأخيرة.

كل العرب المطلين على الخليج، الذي تصر إيران حتى بعد ان أصبحت جمهورية إسلامية على أنه ليس عربياً ولا إسلامياً وإنما فارسيٌ، غمرتهم فرحة عارمة لدخول باكستان نادي الدول النووية، والسبب ليس الخوف من الهند التي كانت أصبحت دولة نووية بدورها، وإنما الشعور بأن المسلمين حققوا ما حققه غيرهم، وأنهم أثبتوا أنهم بدأوا يواكبون المسيرة العلمية الكونية ولم يعودوا متخلفين عنها.

لم يساور العرب اعتقاد ولو للحظة واحدة بأن قنبلة باكستان الذرية ستوضع مقابل قنابل إسرائيل النووية وأنها ستشكل بالنسبة لهم التوازن العسكري الاستراتيجي مع الدولة العبرية ولكن ومع ذلك فإنهم قابلوا التقدم الذي أحرزه الباكستانيون في هذا المجال الهام جداً بالارتياح والتأييد، والسبب هو مجرد تناغم وجداني وهو مجرد حالة معنوية متأتية من أن دولة مسلمة شقيقة أحرزت هذا التقدم الذي أحرزته .

إذن لماذا لم يواجه العرب جمهورية إيران الإسلامية، بالنسبة للتقدم الذي أحرزته في مجال القدرات النووية، ما كانوا واجهوا به باكستان مع ان ما يربطهم بهذه الدولة يربطهم بالدولة الأخرى ومع ان الإيرانيين يتميزون عن إخوتهم الباكستانيين بأنهم يقولون إن ما أحرزوه من تقدم في هذا المجال هدفه تحرير فلسطين ومواجهة صلف وعربدة «الدولة الصهيونية» وليس أي شيء آخر..؟!

إن ما يجب التأكيد عليه، ونحن بصدد البحث عن إجابة لهذا السؤال، هو أن تفضيل العرب للباكستانيين على الإيرانيين لا يعود الى الجانب المذهبي، حيث ان باكستان دولة سنية مثلها مثل كل الدول العربية، وأن إيران دولة شيعية على المذهب الجعفري ـ الاثني عشري وإنما يعود لوقائع التاريخ البعيد والقريب ولأن إسلام آباد تختلف عن طهران في أنها لم تظهر ولا في أي يوم من الأيام أي تطلعات لنفوذ إقليمي في هذه المنطقة، وبخاصة في الدول العربية المطلة على الخليج الذي نعتبره خليجاً عربياً ويعتبره أشقاؤنا الإيرانيون خليجاً فارسياً.

لا مكان للعامل المذهبي في هذه المعادلة على الإطلاق، رغم ان كثيرين من العرب الذين بادروا الى تأييد الثورة الإيرانية والمراهنة عليها فور انتصارها ومن بينهم الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، رحمه الله، بذلوا جهوداً مضنية لكي لا ينص الدستور الإيراني، قيد الإعداد في ذلك الحين، على ان دين الدولة هو الإسلام على المذهب الجعفري ـ الاثني عشري وأن يكتفي بالنص على ان دين هذه الدولة هو الإسلام وذلك كي تكون الجمهورية الوليدة للمسلمين كلهم وليس لطائفة واحدة هي الطائفة الشيعية.

لقد أصر الإمام الخميني، رحمه الله، على ان ينص الدستور الإيراني الجديد على ان دين الدولة أي (الجمهورية الإسلامية) هو الإسلام على المذهب الجعفري ـ الاثني عشري، لكن ومع ذلك فإن هذا العامل المذهبي ليس هو الذي تحكم في معادلة العلاقات بين الدول العربية الخليجية وإيران، إنْ تباعداً وإن تقارباً، بل أن العامل السياسي هو الذي بقي يتحكم بهذه المعادلة منذ عام 1979 وحتى الآن.

لا شك في ان بعض الدول العربية القريبة والبعيدة قد ساورتها شكوك كثيرة منذ اليوم الأول الذي أطاحت فيه ثورة الإمام الخميني عرش الطاووس في طهران لكن ما يجب الإشارة إليه هو ان سبب هذه المخاوف والشكوك لم يكن العامل المذهبي الذي جاءت به هذه الثورة الى هذه المنطقة كلها وبقوة وإنما أيضاً العامل السياسي وصدور إشارات واضحة بأن المعممين من آيات الله لن يكتفوا بما حققوه في بلادهم بل إنهم سيبادرون الى تصدير ثورتهم الى الدول الإسلامية الأخرى وفي مقدمتها الدول العربية المجاورة وبخاصة المطلة منها على الخليج «الفارسي!!».

ولذلك ولأن إيران في عهدها الجديد لم تتخل عن تطلعات الشاه المطاح به محمد رضا بهلوي القومية الإمبراطورية ولأن ثورة المعممين بادرت حتى قبل ان تُرسِّخ دعائم وأركان نظامها في الداخل الى رفع شعار ليون تروتسكي الذي رفعه بعد انتصار الثورة البولشفية في روسيا وهو: «الثورة المستمرة» فقد ووجهت بالشكوك والمخاوف ولذلك أيضاً فقد حصل كل ذلك الاصطفاف الذي حصل وراء الرئيس العراقي السابق صدام حسين بعد اندلاع نيران الحرب العراقية ـ الإيرانية التي سُميت «حرب الخليج الأولى».

ولعل مما زاد في هذه الشكوك والمخاوف ان إيران لم تكُفَّ، حتى بعدما تجرع الإمام الخميني سُمَّ وقف إطلاق النار في 8/8/1988 وانتهت تلك الحرب الظالمة والمدمِّرة، عن تطلعاتها الإقليمية والاستمرار بمد أصابعها نحو دول الخليج ونحو غيرها من الدول العربية من الجزائر في الغرب الى العراق والبحرين والكويت في الشرق ومن لبنان في الشمال وحتى اليمن في الجنوب.

والمؤسف بالفعل ان مثل هذا التدخل قد اتخذ، في بعض الأحيان بل في كل الأحيان، الطابع المذهبي والسعي الدؤوب والمتواصل لتحويل الأقليات الشيعية العربية والعروبية في هذه الدول المُشار إليها آنفاً الى رؤوس جسور للنفوذ الإيراني والتطلعات القومية الفارسية التي كان يجب ان تنتهي فور سقوط نظام أسرة بهلوي وانتصار الثورة التي اعتبرت ثورة إسلامية وللمسلمين كلهم في كل دولهم وأقطارهم.

والمؤسف أيضاً ان هذه الثورة التي اعتبرت ثورة إسلامية لم ترث عن النظام الشاهنشاهي السابق التطلعات القومية ـ الفارسية القديمة تجاه هذه المنطقة كلها فقط وإنما ورثت أيضاً احتلال الجزر العربية الثلاث «أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى» وورثت أيضاً نزعة السيطرة والتفوق والتصرف على أساس ان إيران هي أهم دول هذا الإقليم وأكبرها وأقواها وأنه لها على الدول الأخرى الطاعة والتبعية.

لا يوجد أي مبرر لأن يواجه العرب كلهم، اللهم باستثناء دولة واحدة معروفة، هذا التقدم الذي أحرزته إيران في المجال النووي بكل هذه الشكوك لو ان جمهورية الإمام الخميني لم ترث كل تطلعات وتصرفات محمد رضا بهلوي تجاه الدول العربية المجاورة والبعيدة ولو أنها لم ترفع شعار تصدير الثورة وبقيت ترفعه حتى الآن ولو أنها نسجت عرى علاقات صداقة وأخوة وعلى أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية مع كل دول هذه المنطقة من الجزائر في الغرب وحتى العراق في الشرق ومن اليمن في الجنوب وحتى لبنان في الشمال.

كيف لا يواجه العرب القدرات النووية الإيرانية بالشكوك والمخاوف وأيضاً بالرفض وقد مهدت إيران للإعلان عن هذا التقدم، الذي أحرزته في هذا المجال، بمناورات عسكرية ضخمة وبعرض عضلات في مياه الخليج وهي مناورات لا يقلل ما أثارته من مخاوف لدى الدول العربية المجاورة ادعاءات إيران بأن الهدف هو هزَّ العصا في وجه القواعد الأميركية في المنطقة وتحذير إسرائيل من مغبة القيام بأي مغامرة على غرار ما قامت به عندما استهدفت في بدايات عقد ثمانينات القرن الماضي المجمعات النووية العراقية.

يجب ألا تواجه إيران كل هذه المخاوف والشكوك العربية بالاستغراب وبالإدانة، الصريحة والمبطنة، فالمسؤولية تقع عليها هي وحدها وكان عليها منذ ان بدأت مشاريعها وخططها النووية وقبل ذلك ان تتخلى عن تطلعاتها الإمبراطورية التي ورثتها عن نظام محمد رضا بهلوي وان توقف تدخلها المتعدد الجوانب في الشؤون العربية الداخلية، وأن تتخلى عن شعارات «تصدير الثورة»، وأن تحل مشاكلها القديمة مع دول الخليج وفي مقدمتها مشكلة احتلالها للجزر الإماراتية «أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى» بالأساليب والوسائل السلمية، وفقاً لحسن الجوار والأخوة الإسلامية.