العراق: من يعيد الأوكسجين للحياة السياسية ؟

TT

علينا منذ البدء أن نسلم بأن القوى السياسية العراقية كانت على قناعة، وربما على يقين، وفي اللحظة الاولى التي دخلت فيها بمفاوضات حسم المناصب السياسية وتشكيل الحكومة ، بأنها على ابواب ازمة سياسية لا تخلو من اجواء صراع حقيقي حول الاولويات وطرائق تحقيق الاهداف ، فيما لا يمكن في الوقت نفسه الخروج منها دون تقديم تنازلات من قبل هذا الطرف لصالح الطرف الاخر ، وبشكل لا يجعل انصارها ومؤيديها في الشارع العراقي يشعرون بأنها قد خذلتهم وساومت على مطالبهم .

ولعل من ابرز واهم الآليات التي ينبغي ان تدار بها الازمات، هو انه كيف يمكن لك ان تعمل على اكتشاف ردود افعال الطرف الاخر تجاه مطالبك، التي تعلم بأنها مرفوضة من قبله، او ان موقفه منها غير واضح وعرضة للتغيير تبعا للمستجدات السياسية، وان لا تظل متغافلاً عن الانشغالات الدولية المتأثرة سلباً أو ايجاباً بمخرجات العملية السياسية.

والى ذلك فقد تمكن مرشح قائمة الائتلاف العراقي الموحد لرئاسة الوزراء الدكتور ابراهيم الجعفري الى حد ما من ادارة ازمة ترشيحه لرئاسة الوزراء بنفس جعل الفرقاء السياسيين في حالة من انسداد الأفق لجهة امكانية حلها بصورة من التراضي، وهذا الامر لا ينطبق على الجعفري وحسب بل وعلى الاطراف التي تحفظت على ترشيحه ايضاً، لان الامر بالنسبة لهم يتعلق بأزمة تقاسم السلطة ، التي حسب رأيهم استأثر بها الجعفري طوال فترة توليه الحكومة الانتقالية، فما كان من الجعفري الا ان بادر بإعلانه اعادة امر ترشيحه لرئاسة الوزراء، بعد الضغوط السياسية المحلية والإقليمية والدولية للهيئة السياسية للائتلاف معلناً استعداده للتراجع وتفويض الامر لهم. وهو بهذه الخطوة انما بادر الى وضع كمامة الاوكسجين من جديد لتحيى العملية السياسية، وتبث بها الروح، بعد ان اختنقت بها كل الفضاءات، وبعد ان اصبح الشارع العراقي المستاء من تأخر تشكيل الحكومة الجديدة التي ينبغي لها ان تقيد بالدستور وبقرارات البرلمان المنتخب الذي ستستمر ولايته لمدة اربع سنوات، ورغم ما قدمه من اجلها من تضحيات جسيمة تمثلت بعشرات الآلاف من قرابين الشهادة، هذا الشارع اصبح على مقربة من الانفجار بوجه الشلل الذي اصاب العملية السياسية. فالدماء تنزف والعنف والإرهاب يعيثان فساداً في الارض والأشلاء تتطاير، مع تهجير قسري طال العديد من المناطق، ناهيك من احياء بغداد التي استبيحت بعد ان وجد فيها العنف متنفسا في ظل حكومة أوعزت الى وزرائها، ومنذ ان انتهت مهامها بإعلان النتائج النهائية للانتخابات قبل ما يزيد على الاربعة شهور، بعدم اتخاذ أي قرار، ميدانيا كان او اداريا دون الرجوع الى مجلس الوزراء ليتعطل ويترهل أداؤها، وتصبح شبه عاجزة عن خدمة الانسان العراقي، لا سيما بعد ان انتعشت فيها آفة الفساد المالي.

ولعل المفارقة هنا في ان أزمة مرشح رئاسة الوزراء التي انتهت، ستكون هي الضارة النافعة لأداء حكومة الوحدة الوطنية الأمني والخدمي والسياسي للسنوات الاربع القادمة. ففضلاً عن انها، وللأسف، نمت شعور الخوف والارتياب من قبل كل طرف تجاه الطرف الاخر، من امكانية عرقلة تحقيق مصالح الجهة او الطائفة التي ينتمي اليها هذا الطرف او ذاك ، الا انها وفي الوقت نفسه ستنمي ايضا الشعور بان المصلحة الوطنية العليا للبلاد لا يمكن ان تختزل بمبادئ وأهداف وغايات فئوية او حزبية ضيقة ، وهذا ما يبعث حقيقة على الاطمئنان على مستقبل ووحدة العراق أرضا وشعبا وسيادة . ففي بلد مثل العراق مكون من نسيج اجتماعي متنوع على الصعيد الديني والطائفي والقومي والسياسي، وتحكمه عوامل تاريخية متمثلة بإرث نظام استبدادي ثقيل، تبنى سياسة التهميش والإقصاء السياسي والطائفي ، الذي ما يزال البعض يتجاهل وربما يرفض تصفيته وعدم العودة اليه الى الابد ، لا سيما انه بشكل او بآخر كان جزءا فاعلا فيه ، لا بد أن تقوم عملية بنائه من جديد وفق اسس ديمقراطية حقيقية ، على شعور رضى وقبول جميع فئاته ومشاركتها بفاعلية في القرار.

ثم ولأسباب ليست خافية او مجهولة، أصبح الشعور بالمرارة من اهم سمات القيادات والنخب السياسية على اثر ازمة مرشح رئاسة الوزراء، ليس فقط بين الكتل البرلمانية كالتحالف الكردستاني والتوافق والقائمة العراقية من جهة والائتلاف العراقي الموحد من جهة اخرى وحسب ، بل ايضا هذا الشعور موجود ايضا داخل كتلة الائتلاف ، التي استطاعت وبالرغم من تعويل ومراهنات البعض قبل ايام ، على أن تمزقها وتفككها انما هو السبيل الوحيد لتقدم العملية السياسية الى الامام ، الا أن هذا الشعور كان سيتجسد بحرص لا متناه على خدمة الانسان العراقي ، وبواقع ملموس من خلال متابعة وتقييم اداء كل طرف للطرف الاخر، وما حققه للمواطن العراقي الذي ما يزال مغيبا وغائبا بشكل او باخر عن ساحة الحدث السياسي بكل استحقاقاته المعروفة ، وصولا الى تحقيق الرفاهية والنمو الاقتصادي. ومن ثم كان لهذا الاحساس بالمرارة أن يتحول ومن دون شك الى عذوبة تنهي حالة عدم الثقة، وتزيل الشوائب التي ادت الى التباعد بين هذا الطرف او ذاك. ولكن وفي حالة استمر نهج الاملاءات والتعويل على الدعم الخارجي الاقليمي والدولي في تحقيق مآرب هذه الجهة على حساب الاخرى، او بجعل العراق ورقة في ملفات الآخرين الشائكة التي لا ناقة له فيها، فان البلاد ستجد نفسها مرغمة على الدخول في ازمات داخلية حادة، وحينها ربما لن يقف المواطن العراقي بمعزل ٍعن حسمها لصالح طائفته او قوميته او انتمائه السياسي، وسنخسر حينها الكثير، بدءاً من الوطن الذي اصبح قدره مرهونا بمواقف القوى السياسية، وكيف يمكن لها ان تتجاوز خلافاتها ومد جسور الثقة من جديد بينها ، وانتهاء بالمواطن الذي لم يحصد من ثمار الديمقراطية الى الان غير الفوضى السياسية والوعود بغد افضل، يصبح فيه قادرا ومقتدرا على صنع مستقبل بلده.