أشرطة بن لادن وقضايا العرب والمسلمين

TT

لقد أصبحت أشرطة بن لادن التي تبث في أوقات ومفاصل تاريخية تدعو إلى الريبة بالفعل، كالصحون الطائرة من الفضاء، تشغل بال التواقين إلى عالم أقل عنفاً ودموية، وأكثر سلاماً وأمناً واستقراراً. فقد آمنا، كما آمن الكثير من الأمريكيين أن الشريط الذي تمّ بثه من بن لادن في أواخر حملة الانتخابات الأمريكية كان له أثر لا يستهان به بنجاح الرئيس بوش في الانتخابات الأمريكية. ويأتي شريط بن لادن الأخير وسط جهود مكثفة للولايات المتحدة وإسرائيل لحشد القوى الدولية ضد الحكومة الفلسطينية المنتخبة وقطع المساعدات عن الشعب الفلسطيني بعد أن دمّر الاحتلال الإسرائيلي بنيته الاقتصادية بحجة قطع المعونات عن حركة صنفتها إسرائيل وأمريكا بأنها إرهابية لأنها تقاوم الاحتلال الإسرائيلي وتطالب بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

وأتى شريط بن لادن ليحاول الربط بين حماس والقاعدة، وهو بالذات ما تتوخاه الإدارة الأمريكية وإسرائيل، وهنا يتفق المرء في تحليله مع ميشيل شيور، الرئيس السابق لوحدة بن لادن في جهاز الاستخبارات الأمريكية، والذي قال: «إن بن لادن يبدو في وضع جيد جداً إلى حدّ كبير بسبب السياسة الخارجية الأمريكية فقد قاطعنا حماس بعد انتخابات منصفة... واتبعنا رأي إسرائيل بالنسبة لحماس. وأن أهمّ حليف لابن لادن هو السياسة الخارجية الأمريكية». ويتوافق هذا الرأي تماماً مع ما صرّح به السفير البريطاني السابق في إيطاليا السير ايغور روبرتس الذي قال: «إن أفضل مسؤول ومتعهد تجنيد لدى تنظيم القاعدة هو الرئيس الأمريكي جورج بوش. وإذا كان هناك أحد مستعد للاحتفال بإعادة انتخاب بوش في نهاية الأمر فهو تنظيم القاعدة».

لقد أصبح واضحاً لنا، كعرب ومسلمين، أن أشرطة بن لادن تخدم التوجهات الأمريكية التي تستهدف العرب والمسلمين، كما أصبح مدعاة للتساؤل كيف يتمكن بن لادن من إيصال كلّ هذه الأشرطة إلى محطات تلفزيونية في الوقت الذي يريد، والشكل الذي يريد، من دون أن تتمكن كل أجهزة محاربة الإرهاب وأجهزة الاستخبارات الأمريكية أن تقتفي أثر من يقومون بتسليم هذه المادة الهامة ودون التوصل إلى تحديد مكان بن لادن! بل أصبح شعور معظم العرب والمسلمين أن الولايات المتحدة قد خلقت بأسلوبها هذا، ومنذ الحادي عشر من أيلول، عالماً إسلامياً بديلاً عن العالم الذي يقطنه مليار وثلاثمئة مليون مسلم بحيث لا يلقى، المسلمون المعتدلون، والطريق الوسط وكلّ الجهود التي يبذلها ملايين المسلمين للتعبير عن الروح الحقيقية السمحة للإسلام، أذناً صاغية بالمقارنة مع التسويق والترويج الدولي الذي يحظى به بن لادن والزرقاوي اللذان أصبحا يمثلان في نظر دعاة العنصرية تجاه المسلمين مادة هامة للتحريض على المسلمين في الغرب والشرق.

فقد تم بث شريط الزرقاوي «بلاغ للناس» بعد يومين فقط من شريط منسوب لزعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، وقد قامت مواقع عدة ببث الشريطين وترجمتهما إلى الإنكليزية كما أعطت وسائل الإعلام الغربية مساحة مذهلة للشريطين، خاصة إذا ما قورنت بالمساحة التي تعطى لمنظمات إسلامية تنضوي تحتها معظم الدول والشعوب الإسلامية.

كما تبث مثل هذه الأشرطة ويتم الترويج لها ولأخبار مشابهة عن الزرقاوي وغيره في الوقت الذي يُصدر اليمين المتطرف في أوروبا كتباً عن الأخطار التي يمثلها المسلمون في الغرب، داعين إلى التشدد حيال المتحدرين من أصول عربية وإسلامية بحيث يصبح التشدد حيال العرب والمسلمين جزءاً هاماً من الجدل الانتخابي السياسي المتصاعد في أوروبا، وما يعنيه هذا في جوهر الأمر هو المباراة في التعبير عن المشاعر العنصرية ضدّ العرب والمسلمين، حتى وإن كانوا مواطنين في البلدان المعنية. كما يترافق بثّ هذه الأشرطة مع مشاريع قوانين تعدّها وزارات الداخلية في أوروبا تشدّد شروط الهجرة وإقامة الأجانب، وحتى منعهم من دخول اختصاصات دقيقة، ويسهل بذلك على رؤساء الأحزاب اليمينية تبني أكثر الطروحات تطرفاً وأشدّها عنصرية ضد المتحدرين من أصول عربية وإسلامية.

ومن أخطر نتائج تبني هذا الأسلوب الجديد في تهييج المشاعر ضد العرب والمسلمين هو أن الإعلام الغربي بدأ يذيع أخبار القتل والسجن والاعتقال على أساس «الاشتباه» بالبعض بأنهم قد يشكلون خطراً. وفي آخر نموذج من نماذج الاشتباه هذه نرى أن الرئيس بوش قد جمّد عائدات «المشتبه بهم» في اغتيال الحريري والتفجيرات قبل أن يصل المحقّق الدولي إلى نيويورك وقبل أن يقدّم تقريره إلى مجلس الأمن! ربّما لأنه قد تمّ التوصل إلى قناعة أنه من الصعب عليهم أن يتجاوزوا مرحلة «المشتبه فيهم» إلى مرحلة اليقين، ولا شك أن هذا ينطبق على معظم من تلحق بهم أسوأ صنوف التعذيب والإذلال ممن يعتبرون من «المشتبه بهم» والذين بلغت أعدادهم عشرات الآلاف في سجون، بعضها انكشف اسمه، والآخر ما زال طيّ الكتمان.

في غمرة الترويج لما يقوله بن لادن والزرقاوي، يتم بناء سفارة أمريكية بكلفة مليار دولار في بغداد وهي أشبه بمدينة محصنة صغيرة حيث سيقيم المحتلّ ينعم بالأمن والرفاهية بينما يعاني الشعب العراقي من آخر صنوف القتل والإرهاب والطائفية والإذلال التي أتى بها الاستعمار قاصداً ومتعمداً إلى هذه الديار، فدمّر الحضارة والهوية وقتل العلماء ومازال يبث للعالم صورة الزرقاوي، الفزّاعة، التي يبرر بها الاحتلال قتل من يقتل وتدمير ما يدمّر.

وفي غمرة المعركة الوهمية التي أُثيرت ضدّ حكومة فلسطينية منتخبة، وفي غمرة التشويش المقصود عن اعتراف وعن الادعاء بالسعي للسلام، تستمر إسرائيل في قتل شبان فلسطينيين بعمر الورد طامحين إلى حياة حرّة كريمة واعتقال آخرين وفصل شمال الضفة عن باقي مناطقها وتقييد حركة الفلسطينيين. فقد قتلت ضمن من قتلت الفتى الشاب سمير أبو عريبات بقذيفة دبابة إسرائيلية في مخيم البريج وسط قطاع غزة واعتقلت عشرات الآخرين. وقد أكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي المحتلة تشديد القيود التي تفرضها إسرائيل على حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية.

وقال مكتب الأمم المتحدة إنه «منذ بداية 2006 شددّت إسرائيل القيود المفروضة على الفلسطينيين وهي تشمل استمرار بناء الجدار الفاصل (جدار الفصل العنصري) في الضفة الغربية، وارتفاع عدد الحواجز العسكرية والكتل الإسمنتية والشروط المفروضة على إصدار التصاريح «للتنقل» والعمليات العسكرية المتكررة».

وقال «إن عدد وسائل الإغلاق التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة ارتفع من 376 وسيلة في آب 2005 إلى (505) وسيلة في آذار 2006.

وتشمل الوسائل، حواجز عسكرية ثابتة وكتلاً إسمنتية وإغلاق طرق ومداخل بالأتربة والصخور والحفر وغيرها».

هذه هي الأخبار التي يرغب ملايين العرب والمسلمين أن تصل إلى مسامع الإنسان الغربي كي يعلم ما يجري في منطقتنا وأي تصفية لشعب كامل على أرضه وأي نظام عنصري يفرض على ملايين البشر في فلسطين، لا أن ينشغل العالم بأبطال إرهاب، قد يكونون حقيقيين أو وهميين، اتخذت منهم بعض الدوائر ذريعة لاحتلال العراق وابتلاع فلسطين وتهجير وتدمير البلد والشعب والإجهاز على المسلمين في الغرب، بحجة أنهم قد يتعاطفون مع بن لادن أو يشتبه بانتمائهم لتنظيمه!

فإلى متى يبقى عالم بن لادن المحرّك الأساسي لسياسات الغرب حيال البلدان العربية والإسلامية وحيال العرب والمسلمين؟

ومتى سوف يدفعهم العرب والمسلمون إلى إغلاق هذا الملف الذي لا ينسجم فقط مع السياسة الخارجية الأمريكية والإسرائيلية، بل يبدو أنه إحدى أهم أدواتها في الهجمة العاتية ضدّ العرب والمسلمين، أكانوا في فلسطين والعراق أم في أي بلد من بلدان العالم.

وللمفكرين الغربيين الذين يدعون العرب والمسلمين لرفع أصواتهم وتوضيح رؤيتهم في هذا السجال الدائر نقول إن وسائل الإعلام لا تعير اهتماماً للأصوات الحقيقية التي تمثل جوهر الإسلام السمح الذي حقق أنموذجاً للتعايش بين الثقافات والأديان، وبدلاً من ذلك تعمل على نشر وترويج كلّ ما من شأنه أن يظهر المسلمين دعاة عنف، حتى وإن كان هؤلاء لا يمثلون ديناً أو شعباً أو توجهاً.

لقد كانت نتائج إرهاب بن لادن أولاً وأخيراً ضد العرب والمسلمين، ومقارنة سريعة بين حال العرب والمسلمين قبل أحداث الحادي عشر من أيلول مع أوضاعهم اليوم تُري أنهم، كضحايا 11 أيلول من الأمريكيين، هم ضحايا حقيقيون للإرهاب في المعنى الحضاري والثقافي والتاريخي والديني أيضاً، وأنه يتم وبشكل منهجي تجاهل الأصوات المتعالية ضد الإرهاب في العالمين العربي والإسلامي كي يبقى الغرب مقتنعاً أن بن لادن والزرقاوي يمثلان ظاهرة عامة في عالمنا وكي تكتمل الأسباب لاضطهاد العرب والمسلمين في الغرب والشرق.