ديمقراطية المحتشد

TT

في الوقت الذي كانت مشاهد الملاجئ المكتظة بالمهاجرين الأفارقة غير الشرعيين الناجين من قوارب الموت القادمة من الشواطئ الموريتانية والمغربية تطل على الشاشات الصغيرة مستثيرة امتعاض وقلق منظمات حقوق الإنسان، كانت المظاهرات الحاشدة تجتاح المدن الأمريكية الكبرى محتجة على قوانين الهجرة الأخيرة التي لا يخفى طابعها العنصري (تقليل نسب هجرة اللاتينيين حفاظا على النقاء القومي والثقافي)، في الوقت نفسه الذي كان البرلمان الفرنسي يناقش بحدة قانون وزير الداخلية ساركوزي الذي أطلق عليه قانون «الهجرة الانتقائية»، واعتبره من مطالب اليمين المتطرف، كما أنه يتناقض مع فكرة «الارتباط بالأرض» التي هي أساس قانون الجنسية الفرنسية.

ولا يمكن فصل هذه التطورات ذات الصلة بقوانين وإجراءات تقييد الهجرة في البلدان الغربية عن مشاهد أخرى مرتبطة بها، مثل مسطرة التفتيش الإداري في منافذ الدخول بالولايات المتحدة، ومعتقلات غوانتنامو وأبو غريب، فضلا عن الجدار الذي أقامته سلطات الاحتلال الإسرائيلية لفرض طوق أمني مغلق على المناطق الفلسطينية المكتظة بالسكان، فرضا لشروط مسبقة على أي ترتيبات حل نهائي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

فما هو المنطق الداخلي المشترك لكل هذه المشاهد التي تختصر في صورة «المحتشد» الذي اعتبره الفيلسوف الإيطالي جورجيو آغامبن رمز الحداثة السياسية، في مقابل المدينة بمفهومها اليوناني.

فاللاجئ والمهاجر والمنشق، وجوه قصوى للنظام السياسي والمجتمعي لديناميكية العولمة التي تقوم على مفارقة نادرا ما يتم الوعي بها، وهي تحرير الرساميل وتسهيل انتقالها مع إقامة الحواجز المنيعة لكبح حركة الناس وعرقلة انتقالهم.

فالمنظومة الرأسمالية الحديثة التي قامت على الثورة الصناعية الأولى، أنجزت الوحدات الاندماجية الكبرى التي عرفت بالدول القومية، وكرست مفهوما جديدا للمواطنة من حيث هي ولاء لوحدة سياسية كلية تعلو على الخصوصيات العرقية والدينية.

أما الرأسمالية الثانية التي يطلق عليها عبارة العولمة أو الامبراطورية (حسب تعبير توني نغري) فإنها قد قوضت شتى دوائر الاندماج السياسي والاجتماعي، كما أوهنت الشبكة المرجعية لحقوق الإنسان بالعودة إلى «الدولة الاستثنائية» التي تعطي الأولوية لمبدأ الحماية الأمنية، على مبدأ كرامة الإنسان وحريته. وقد بدا من الواضح أن التشريعات التي صدرت في الولايات المتحدة والعديد من البلدان الأوروبية بعد أحداث 11سبتمبر 2001، عبرت عن هذا التحول، الذي يرتكز على آليتين مترابطتين هما أولا تحويل الآخر «الأجنبي» إلى آخر نوعي أي كائن مختلف الخصائص الإنسانية عن المواطن، ومن ثم مشروع الفصل بين المدونة القانونية التي تضمن حقوق المواطن والمدونة القانونية التي تسمح بإقصاء الأجنبي لاجئا كان أم مهاجرا أو أسيرا، وثانيا تقليص مجال الحريات العامة حماية للمواطن من خطر الإرهاب الذي لا مصدر له إلا في الخارج (السياقات الحضارية والسياسية المغايرة).

ولئن كانت هذه التحولات تبدو ظرفية، مرتبطة بظاهرة الإرهاب الذي ضرب في السنوات الأخيرة عددا من المدن الغربية الكبرى بعد أن عاث فسادا لمدة طويلة في ديار العرب والمسلمين، فانها في الحقيقة تتجاوز هذه الظاهرة وتتصل بنمط تركيبة وأداء الدولة في عصر العولمة، حيث تحولت إلى مجرد سلطة رقابة وضبط، في مرحلة تفكك فيها العقد السياسي وانهارت مؤسساته الفاعلة من بنيات بيروقراطية وطبقية وايديولوجية وأشكال تنظيم حزبي ونقابي. لقد أدى هذا الوضع إلى ما عبر عنه جان بودريار بانبثاق «الأحداث المارقة» على غرار مقولة «الدول المارقة» التي أطلقتها الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس السابق كلينتون. وتعني هذه العبارة الأحداث التي تنفجر في نسق الهيمنة المغلق، حيث لا مجال للحركات التاريخية الفاعلة، ولا منافذ للتغيير، فهي أحداث تمرد يائسة إزاء عنف النظام المسيطر الذي لا مركز له ولا قاعدة.

إنها مجرد تموجات رمزية لقوة مضادة غامضة، تقاوم بصفة عمياء من داخل العولمة نفسها التي لا بديل موضوعيا عنها. ويحشر بودريار في خانة الأحداث المارقة الكثير من المستجدات الأخيرة التي استأثرت بواجهة الاهتمام العالمي مثل انفلونزا الطيور وجنون البقر والكوارث الطبيعية كالفيضانات الآسيوية (تسونامي)، فهذه الأحداث المثيرة، وإن أربكت رتابة العولمة، إلا أنها لا يمكن أن تقضي إلى انقلاب جذري في نظام العالم، بقدر ما أن حروب الامبراطورية ـ وإن أذهلت بتفوقها التقني الهائل ـ عاجزة عن تحقيق الانتصار المطلوب على خصم لا وجه له ولا هوية ولا موقعا. فليس الإرهاب سوى مظهر من مظاهر هذا الواقع الافتراضي الملتبس، حتى ولو كان يتخفى في عدميته التدميرية المدانة بأسمى الأقنعة (الدين والدفاع عن الحقوق المسلوبة). فالحرب من هذا المنظور محكوم عليها بالإخفاق والفشل، تدعم وتغذي العدو الذي تستهدفه (المجموعات الإرهابية) بردود فعلها الخرقاء، في الوقت الذي تتحول إلى ماكينة قتل وقمع عارية من المخزون الرمزي للعنف المشروع، وإن تخفت خلف قناع أخلاقي سام (تحرير الشعوب من الاستبداد).

وكما حولت حروب الإرهاب كبريات المدن الغربية إلى محتشدات معزولة عن العالم لحمايتها، حولت المدن «المحررة» من الاستبداد والظلامية إلى حطام تشتعل فيه الحروب الأهلية، في الوقت الذي تنمو فيه «ملاجئ الرعاية» (أي تحويل المواطنين إلى لاجئين في بلدانهم)و «ملاجئ التعذيب» (مثل سجون بغداد والبصرة).

لقد استمعت بالأمس القريب للرئيس بوش يعلن مزهوا أن الولايات المتحدة اقتربت من تحقيق أهدافها السياسية في العراق بقرب تعيين أول حكومة ديمقراطية دائمة في العراق الجديد (في حدود المحتشد الآمن الذي يدعى بالمنطقة الخضراء، حيث المؤسسات الرسمية التي تحميها القوات الأمريكية).