تقنين الشريعة.. اجتهاد محمود وأصيل

TT

تحدثنا في مقالات سالفة عن مصالح القول بتقنين الفقه في القضاء، وناقشنا بعض حجج المعترضين من اهل العلم.

في هذا المقال، نختم بنقاش حجة طالما رددها بعض المعارضين، وهي ان القول بالتدوين او التقنين، مخالف لفتاوى العلماء المعمول بها.

ونقول ابتداء، انه حتى الامام احمد بن حنبل والإمام الشافعي ومالك وأبو حنيفة، قد خولفوا، والحجة هي الدليل الشرعي، والنظر المعتبر المراعي لمقاصد الشرع المطهر. والاتجاه للتدوين والتقنين فيه مصالح عظمى للمسلمين، ورعاية للشريعة وتيسير لتطبيقها.

هذا اولا، ثم انه ليس صحيحا انه لا يوجد من أهل العلم من لم يذهب الى هذا المذهب في التقنين، خصوصا من علماء البلاد السعودية، حماها الله.

وليعلم أن مسألة إثبات القول الراجح من أقوال أهل العلم وتدوينه في كتاب وتعميمه على المحاكم، وهو جوهر التقنين الذي نطالب به، ليس وليد العصر، فقد كانت مجلة الأحكام العدلية، في الدولة العثمانية على هذا المنوال إلا إنها اقتصرت على المذهب الحنفي دون غيره من المذاهب، ثم ظهر في مصر كتاب (مرشد الحيران في معرفة أحوال الإنسان) في المعاملات الشرعية على مذهب أبي حنيفة، وهو من تأليف محمد قدري باشا مرتبا في مواد، وفي المملكة العربية السعودية قام فضيلة الشيخ القاضي أحمد عبد الله القارئ ـ رحمه الله ـ وهو رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة سابقا بتأليف مجلة فقهية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ وأسماها بـ«مجلة الأحكام الشرعية» ولا تزال هذه المجلة موجودة إلى يومنا هذا، بل لا تكاد تخلو مكتبة قاض منها، يرجعون إليها بين الفينة والأخرى.

بل هناك مجموعة من أعضاء هيئة كبار العلماء في بلادنا في السعودية طالبت بهذا التدوين للأحكام منهم الشيخ عبدالمجيد بن حسن. والشيخ محمد بن جبير، والشيخ عبد الله بن منيع، والشيخ عبد الله خياط، والشيخ راشد بن خنين، والشيخ صالح بن غصون. ومما قالوه «ان أمر اثبات الراجح من أقوال أهل العلم، وتدوين ذلك في كتاب، وتعميمه على المحاكم الشرعية للعمل بمقتضاه ـ ليس أمرا محدثا، وإنما كانت الفكرة موضع اثارة وبحث الجهات المعنية بالمرافق القضائية، وذلك منذ زمن بعيد. فقد ثبت أن الملك عبد العزيز رحمه الله وغفر له، أراد أن يحمل القضاة على الأخذ بأحكام مختارة يجري تدوينها ثم تعميمها على المحاكم. فقد جاء في افتتاحية (أم القرى) في عددها الصادر بتاريخ 28/2/1346هـ ما نصه: ان جلالة الملك ـ حفظه الله ـ يفكر في وضع مجلة للأحكام الشرعية، يعهد إلى لجنة من خيار علماء المسلمين الاختصاصيين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة، وهذه المجلة ستكون مشابهة لمجلة الأحكام التي كانت الحكومة العثمانية وضعتها عام 1293هـ، ولكنها تختلف عنها بأمور، أهمها: عدم القيد حين الاستنباط بمذهب دون آخر، بل تأخذ ما تراه في صالح المسلمين من أقوى المذاهب حجة ودليلا من الكتاب والسنة، وجاء فيها ما نصه:

فأصدر أمره إلى هيئة المراقبة القضائية بالمشروع في عملها على الطريقة التالية: إذا اتفقت المذاهب الأربعة على حكم من الأحكام فيكون هذا الحكم معتبرا وملزما لجميع المحاكم والقضاة.

والمذاهب الأربعة هي متفقة في الأحكام الأساسية وفي كثير من الأحكام الفرعية. أما المسائل الخلافية فيشرع في تدوينها منذ اليوم، وفي كل اسبوع تجتمع هيئة مراقبة القضاء مع جملة من فطاحل العلماء، وينظرون فيما يكون اجتمع لدى الهيئة من المسائل الخلافية وأوجه حكم كل مذهب من المذاهب فيها، وينظر في أقوى المذاهب حجة ودليلا من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيصدر قرار الهيئة على إقراره والسير على مقتضاه، وبهذه الوسيلة تجتمع لدى الهيئة معظم المسائل الخلافية التي هي منشأ الصعوبة في التأليف بين أحكام المذاهب، ويصدر القرار بشأنها، ويكون هذا القرار ملزما لسائر المحاكم الشرعية والقضاة، وأساساً قوياً لتوحيد الأحكام وتأليفها. وبناء على كل ذلك، فإن هذا الاجتهاد في تقنين الشريعة، هو اجتهاد محمود، وله اصل شرعي، وبه قائلون من اهل العلم والفضل، وليس هو بالمذهب المهجور او العاري من الدليل.

وفي الختام نسأل الله الهدى والسداد للمسلمين في كل امورهم والله المستعان.

* فقيه سعودي ومستشار قضائي

في وزارة العدل السعودية